ولاية العهد
الشيخ أحمد العوادي
ان ولاية العهد من الاحداث التاريخية المهمة التي شغلت الرأي العام واذهلت كافة الاوساط السياسية ذلك بان عقد المأمون بولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) يؤذن بتمويل الخلافة من بني العباس الى خصومهم السادة العلويين فكيف تحولت السياسة العباسية بين عشية وضحاها الى هذا الخط المعاكس للخط السياسي الذي سلكه العباسيون منذ بداية حكمهم وهو قهر السادة العلويين وابادتهم فقد افنوا شبابهم فدفنوهم احياء والقوا بأطفالهم في حوض دجلة واستعملوا معهم جميع الوان الابادة.
والمأمون فيما عرفه الناس وعرفه التاريخ هو من أبناء هذه الاسرة الظالمة لأهل البيت (عليه السلام) لم يشذ في سلوكه عن سلوك آبائه ولم ينحرف عن اتجاههم المعادي للعلويين، فما الذي دعا المأمون الى هذا التغيير المفاجئ والعدول عن خط آبائه ومنهجهم فعقد ولاية العهد الى الامام الرضا (عليه السلام)؟ وكيف قبل الامام بولاية العهد مع علمه بانحراف المأمون؟ ولعل من اوضح الواضحات عند الناس عامة انه ليس من طبائع الاحوال الدنيوية وسنن النفوس البشرية ان يتنازل المأمون عن سلطان بني العباس ومستقبلهم فيقدم الخلافة هدية الى اولاد علي ويحرم منها آله وبني عمومته على مرّ الاجيال!، كما ان من اوضح الواضحات عند المثقفين من دارسي التاريخ والواقفين عليه انه لم يكن من المتجانس المنسجم مع سلوك علي بن موسى وسيرة آبائه الائمة (عليه السلام) وهم الزاهدون في الدنيا وزينتها والمعرضون عن زخارف الحياة وزبرجها!.
اذن فنحن بحاجة الى الغوص قليلاً في الاعماق لنقترب من معرفة ما وراء تلك الظواهر من اسباب واسرار لنصرف ماهي دوافع الامام الرضا (عليه السلام) وماهي دوافع المأمون من ولاية العهد. اما دوافع الامام الرضا (عليه السلام) فقد ورد في بعض النصوص المروية عن الامام نفسه ما بيّن لنا لمحات من الدوافع فكفانا مؤنه الاحتمال والرجم بالغيب وزادنا ادراكاً لحقيقة تلك الاسباب منها ما روي عن الريان بن الصلت انه دخل عليه فقال له يا بن رسول الله الناس يقولون انك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا فقال (عليه السلام) قد علم الله كراهتي لذلك فلما خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل ويحهم اما علموا ان يوسف (عليه السلام) كان نبياً ورسولاً فلما دفعته الضرورة الى تولي خزائن العزيز قال (اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم) ودفعتني الضرورة الى قبول ذلك على اكراه واجبار بعد الاشراف على الهلاك على اني ما دخلت في هذا الامر الا دخول خارج منه فألى الله المشتكى وهو المستعان . وفي رواية اخرى انه دخل عليه يوما محمد بن عرفه فقال له يا بن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فقال ما حمل جدي امير المؤمنين (عليه السلام) على الدخول في الشورى؟! ويدل مجمل فحوى هذين الجوابين على ان قبول الامام بالتكليف لم يكن بسبب الطمع بترف الحياة وأبهة الملك وانما كان نزولا على حكم الخشية من القتل وتخلصاً من استمرار التهديد وعملاً بوجوب حفظ النفس من الهلاك كما فعل نبي الله يوسف عليه السلام مكرها حينما احاطه الخطر واجبرته الضرورة عل تولي خزائن العزيز، ثم استشهد في النص الثاني بقبول هذه امير المؤمنين (عليه السلام) في المشاركة في الشورى على الرغم مما قد تحدثه تلك المشاركة من لبس وبلبله في الفهم العام بما قد تفسّر به من اعتراف من الامام علي (عليه السلام) بما وقع بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله) واذا كان امير المؤمنين (عليه السلام) قد اراد بقبوله الدخول في الشورى إعلام الأمة باعتراف خصومه بأهليته للخلافة بعد أن كانوا يرفضون الاقرار بتلك الاهلية من قبلُ، فان الامام الرضا (عليه السلام) بقبوله هذا قد اثبت اعتراف خصومه بأهليته لإمامة الدين وولاية الأمر وحملهم بسبب ذلك على اعلان هذه الحقيقة على رؤوس الاشهاد وفي جميع الاصقاع الإسلامية.
وأما دوافع المأمون الى هذا التنازل وأسباب اختياره للإمام الرضا (عليه السلام) بالذات لم تكن بتلك الدرجة من الغموض والخفاء وهذه بعضها:
1- إنه لم يكن له مركز قوي في الدولة الإسلامية فقد كانت الاسرة العباسية تحتقره وذلك من جهة امه (مراجل) التي كانت من خدم القصر مضافاً الى صلته القوية بالفضل بن سهل وتوليه جميع اموره فهو فارسي الاصل وكذلك كان اخوة الامين يبغضه ويبغي له الغوائل فاراد المأمون تدعيم مركزه وتقوية نفوذه فعقد بولاية العهد لأعظم شخصية في العالم الاسلامي وهو الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) حيث يدين بإمامته والولاء له شطر كبير من المسلمين فلذا بادر الى تعيينه لهذا المنصب الخطر في الدولة الإسلامية.
2- وقبل ان يتسلم المأمون قيادة الدولة الإسلامية كان على علم بما يكنه المجتمع الإسلامي من الكراهية والبغض للاسرة العباسية وذلك لما اقترفوه من الظلم والاستبداد بامور المسلمين وما صبّره على السادة العلويين دعاة العدل الاجتماعي من انواع الجور والطغيان، فاراد المأمون ان يفتح صفحة جديدة للمواطنين ويلقي الستار على سياسة آبائه فعين الامام الرضا (عليه السلام)ـ الذي هو أمل الأمة الإسلامية ـ لولاية العهد.
3- وهذا السبب من اهم الاسباب التي دعت المأمون لفرض ولاية العهد على الامام الرضا (عليه السلام) وهو ان الثورة ضد الحكم العباسي قد اندلعت في معظم الاقاليم الاسلامية فاذا ذهبنا الى الكوفة شاهدنا محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب قد خرج فيها في سنة 199 داعيا الى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، واذا انتقلنا من الكوفة الى البصرة والاهواز رأينا هناك زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ومعه جماعه من اهل بيته وقد خرج على الحكومة المركزية وهو المعروف بزيد النار لكثرة ما احرق من دور بني العباس واتباعهم بالبصرة.
وإذا عرّجنا على اليمن وجدنا فيها ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن ابي طالب ثائراً داعيا الى الله وفي مكة المكرمة نشاهد محمد بن جعفر العلوي خارجاً على المأمون في سنة 199 وداعيا الى نفسه ,ودانت المدينة المنورة لمحمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب وكان قد دخلها بدون قتال , وثار الحسن الهرش في سنة 198 في خراسان حيث يقيم المأمون وكان يدعو الى الرضا من آل محمد.
ومحل الشاهد في عرض هذه الاحداث على الاجمال بيان كون المأمون على علم بكل ذلك وعلى علم بان العلويين هم رموز هذا الزلزال العنيف ومشاعله المضيئة، فلم يجد المأمون أضمن لبلوغ الغاية المتوخاة من تجريد الخصوم من سلاحهم الجاذب للجماهير وهو (الدعوة الى الرضا من آل محمد) فعمل مسرحية ولاية العهد لإطفاء الحريق وانقاذ الموقف والاطمئنان الى سلامة المستقبل وقد استجاب الثوار لهذه البيعة التي عقدها للإمام وفي نفس الوقت فقد اضفى على الامام لقب الرضا ليجلب بذلك المأمون عواطف الثوار وبالفعل فقد بايع الثوار المأمون واستراح من الخطر المحدق بدولته الذي كاد ان يلف لواءها ويطوي معالمها.
4- ومن الاهداف التي كان ينشدها المأمون في هذه البيعة هو إظهار الامام (عليه السلام) انه ليس من الزاهدين في الدنيا وانما كان من عشاقها في قبوله لهذه. وعليه فلم تكن من تلك الاسباب ما نسب الى المأمون من حبٍ لأهل البيت وتشيع للعترة الطاهرة وإن كانت المصلحة السياسية حملته على التظاهر بذلك الحب والولاء علناً وعلى التفوه به كثيراً أمام الجميع، بل ربما بلغت به الحاجه الى هذا التظاهر حد ما روي من انه كتب الى الافاق (بان علي بن ابي طالب افضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه واله)، وأن لا يذكر معاوية بخير ومن ذكره بخير أبيح دمه وماله ولم تكن تخفى على الامام (عليه السلام) جميع اهداف المأمون فقد ابطلها جميعاً من خلال شروط شرطها الامام ( عليه السلام ) على المأمون تكشف هذه الشروط عن عدم رضاه بولاية العهد و إجباره على قبول هذا المنصب وهذه الشروط هي:
- ان لا يولي احداً
- ان لا يعزل احداً
- لا ينقض رسماً
- يكون مشيراً من بعيد في شؤون الدولة
واجاز المأمون هذه الشروط التي تتصادم مع اهدافه وتفضح نواياه لان المأمون كان يريد من وراء ولاية العهد ان يظهر الامام بان ذلك الرجل الذي لا يختلف عن بقيه الرجال بمجرد ان تأتيه السلطة ينجر ورائها ويكون تابعاً لها لا أنها تابعة له لكن المأمون لم يستطع ذلك لان الامام (عليه السلام) كان متنبهاً لذلك فلم يقبل أن يتدخل في أي شأن من شؤون الدولة وبالتالي أبطل الامام (عليه السلام) ما كان يصبو اليه المأمون.