مختبر الإيمان عند علي بن الحسين (عليه السلام)
الشيخ محمد آل حيدر
الإيمان هو مقوم الإنسانية في الإعتبارات السماوية؛ فالمؤمن هو من أثارعقله؛ فعرف ربه؛ وآمن به وسلك سبله، والمؤمن يتعامل مع عوالم الغيب؛ يريد أن يكون مرضيا عند ربه؛ مبتعداً عن الشيطان وجنده.
وقد تشتبه على المؤمن الأمور؛ فهو يصارع شهوة يغلبها مرة وتغلبه مرات؛ ويصارع شيطانا يأخذه تارة؛ وأخرى يخطأه؛ ويصارع مجتمعاً يبتعد عن الإيمان مرة ويقترب أخرى؛ وفوق كل ذلك يصارع نفساً أمارة بالسوء؛ وهنا لابد له من مختبر يختبر به نفسه.
كما أنه يتعامل مع خلائق؛ يظهر بعضهم بثوب الإيمان تارة وبثوب الإنحراف أخرى؛ ومنهم من يُظهر تنسكا لايفتأ أن يخلطه بفسوق؛ وآخر يرى عليه بركات تتنزل الى الخلق بوجوده؛ وآخر يفسق حتى تضج الخلق من فسوقه. وهنا أيضا لابد من مختبر ومسطرة يجعلها هي المقياس؛ وقد أوضح سيد الساجدين عليه السلام في حديث من عيون كلمات أهل بيت العصمة والطهارة والكمال صلوات الله عليهم.
فقد حدّد صلوات الله عليه مراحل ومراتب للإختبار؛ وهي:
1- إختبار السلوك الخارجي؛ هل أن المظهر الخارجي لمن يدعي الإيمان يتناسب مع هذه الدعوى؛ من حيث حركاته وسكناته؛ فإن كان كذلك فقد تجاوز المرحلة الأولى من الإختبار؛ وهي المرحلة الأبسط والأسهل.
2- إختبار التعاملات المالية؛ فهل أنه يستغل هذا الشكل الإيماني الخارجي لإقتناص الفرص؛ والتغرير بالناس ليأكل المال الحرام؛ ويجعل المظهر الديني فخا ينصبه للناس؛ حتى إذا وقع أحدهم في فخه أخذه كما يأخذ الذئب فريسته؛ وهذا يحدث في مجتمعاتنا كثيرا ومن أمثلته الصارخة البنوك؛ وخصوصا أن بعضها يرفع الشعار الإسلامي وهو بنك ربوي.. وهذه المرحلة الثانية؛ فإن نجح فيها؛ ووجدنا –بعد التجربة والممارسة معه– أنه لا يجعل الدين مصيدة للمال الحرام ننتقل الى الخطوة التالية.
3- إختبار الشهوات؛ فإننا قد نجد الرجل يتمظهر بالمظهر الديني؛ ولا يمد يدا الى مال حرام؛ ولكن شهوة من شهواته تسيطر عليه؛ كشهوة الجنس مثلا؛ أو حب الظهور العلمي من غير واقعية علمية. فإذا كان حسن المظهر عفيف الجنب عن مال حرام؛ أو فسق وفجور؛ فهنا تأتي المرحلة الرابعة
4- إختبار العقل؛ وهو أن نرى هل الشخص يفعل الواجبات والمستحبات ويتجنب المحرمات لرجاحة عقل؛ أم للتربية فقط؛ وأنه لا يزن الأمور بميزانها الصحيح؛ وأنه يعيش بنحو من الحمق والجهالة؛ فما يضيعه أكثر مما يحفظه؛ وهذا حال الكثير من المتصدين للأعمال والإدارات والأوقاف والسلطات الدينية؛ فتراهم يبغضون الدين للناس أكثر من أن يحببونه لهم. فإذا كان مايفعله من حسن ويتركه من قبح لعلم وعقل؛ وفهم وإدراك؛ فهنا ننتقل مرحلة مهمة من الإختبار.
5- إختبار الهوى؛ وهو أن نتفحص عن هذا الظاهر الإيماني والعاقل المتدين؛ أين يستغل عقله؛ وكيف يتصرف به؛ فهذا رجل من ذرية لوط عليه السلام آتاه الله كرامة؛ إختبره الله بها؛ ففشل في الإختبار؛ وهو بلعم بن باعورا فقد كان يعرف اسم الله الأعظم فمال إلى فرعون وآثر الحياة الدّنيا وأراد الدعاء على موسى وبني إسرائيل، فكان كما قال الله في حقّه: (وَاْتلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين)؛ فهنا إستغل عقله ومدركاته في خدمة هواه؛ وقد عرف الحق فخالفه الى الظلال؛ وهذا حال وعاظ السلاطين؛ وأتباع المترفين؛ فإنهم يرون الحق بحقه والباطل بباطله فيخالفونه؛ وهم عارفون بذلك؛ ومنهم من يحاول الإعتذار لنفسه؛ كالقادة العسكريين يأمرهم الزعيم بقتل الأبرياء وتهديم قرى وسبي النساء فينفذ إعتذارا لنفسه وللآخرين بالمهنية؛ ونجد من أغبياء الناس من يصفق ويهتف. فإن كان متدين الظاهر عفيف الباطن؛ نقي الذيل؛ لا يستخدم عقله لخدمة هواه في شأن من شؤون الدنيا وملاذاتها؛ بل يتحمل مشاقها وأذيتها؛ فهنا ننتقل الى قاصمة الظهور؛ والمرحلة الأخيرة من الإختبار.
6- إختبار الزعامة؛ وتحت الطمع بالزعامات تكون أكثر مصارع العقول؛ فكم من مظهرٍ للدين؛ عاصمٍ لنفسه أمام العالمين؛ مكباً على كل خير؛ ولكن لاطاعة لربه؛ ولا فرقاً من ناره وعذابه؛ ولا طمعاً بجنته ونعيمه؛ وإنما مخادعةً لنفسه؛ ومخاتلةً لغيره؛ حتى يصل إلى زعاماتٍ دنيويةٍ؛ أو حتى دينية؛ وكان بعض خلفاء بني أمية يُسمّى حمامة المسجد؛ حتى إذا بشروه بشر البشارات؛ وتوليه الحكم أغلق المصحف الشريف وكان بيده؛ وقال هذا فراق بيني وبينك. وكل طالب علم ديني إن كان همه السمعة والرياء والظهور فهو من هذه الفئة.
ومن أكبر مخاطر هذه المرحلة أنها غير ظاهرة؛ وقد تكون عصية الظهور والوضوح حتى على الشخص نفسه؛ فتجد أن نفسه تخاتله؛ ولهذا نرى بعض أكابر العلماء إبتعدوا عن التصدي للمرجعية خوفا من عدم الخلوص التام للنوايا المقربة لله تعالى.
7- فإذا كان بمظهر الإيمان عفيف الوجدان عاقل فاهم؛ يضع عقله بمكا يورده الجنان؛ لا لرغبة في زعامة أو سلطان؛ فهنا تمت الشروط وتناغمت الإنسانية الظاهرية مع الحقيقة الملكوتية؛ وبدأت شآبيب الرحمة الإلهية تأخذ محالها، وحصل التكامل الإنساني.
وقد يبدو من هذا الحديث الشريف أن هذه المراحل إنما تكون في أهل الجد والعمل؛ وليس أهل الضجر والكسل؛ فأولئك حالهم أهون من أن يُختبروا بطويل المراحل؛ وكثير الدرجات؛ بل إن كسلهم يمنعهم من التقدم والترقي حتى في مدارج الباطل؛ فضلا عن معالم الحق؛ وشموخ بنائه.
وعلى كل حال فإن هذا الحديث الشريف الذي يرويه الرضا عن جده زين العابدين (عليهما السلام)؛ من الكلمات التي تحتاج الى كلام طويل وتنقيح عريض؛ ولا غرابة فكل كلامهم مهم؛ وكل بيانهم يحتاج الى نهم في علومهم مفرط في الاكثار من تأمل أقوالهم؛ حتى يحصل العلم ألأول والآخر.
فسلام على السجاد في كل سجدة وعلى الرضــا المسموم ألـف تحيـــة
نص الحديث كما يرويه أبو منصور احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي في الإحتجاج:
عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: قال علي بن الحسين:
" إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخا لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام، فرويدا لا يغرنكم! فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبوا عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوها قبيحة، فيأتي منها محرما، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم، حتى تنظروا ما عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم! تنظروا أمع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف محبة للرياسات الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له رياسة التي قد شقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا، ولكن الرجل كل الرجل. نعم الرجل هو: الذي جعل هواه تبعا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفذ، وأن كثيرا ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا يخيب له طلبة".
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.