التقليد في أصول الدين
الشيخ مثنى ابو الهيل الساعدي
مقدمة
لايزال الرأي المشهور -الذي حصَر طريق المعرفة بأصول الدين بالنظر والاستدلال-هو السائد في أغلب الأوساط النخبوية المثقفة، بل وفي بعض الأوساط العلمية المتخصصة أيضا، حتى بدا كأنه هو الرأي الأوحد والمذهب المتفرّد الذي لايوجد ما يقابله ويُضاده في تراثنا العلمي القديم والحديث، بل ربّما يصل الأمر إلى حد الاستغراب والاستهجان، بل والاستيحاش من البعض!، إذا ما طرق أسماعهم أنّ ثمّةَ رأيٌ آخر معتد به ذهب اليه بعض الأعاظم والأساطين من علماؤنا، رضوان الله تعالى على الماضين منهم وحفظ الباقين، وهو كفاية التقليد في أصول الدين فيما إذا تمخض عنه جزم ويقين في ما يجب الاعتقاد به، بل ذهب بعضٌ الى أبعد من ذلك، حيث انتهى الى كفاية الظن[1] في صحة الاعتقاد، وإن كنّا في غنىٍ عن هذا الأخير؛ لأننا سنقتصر في بحثنا هذا على التقليد الذي يولّد الجزم خاصّةً.
المبحث الأول: القول بعدم جواز التقليد
ذهب جمعٌ كبيرٌ من علماء المسلمين الى وجوب النظر والاستدلال في تحصيل الأصول الاعتقادية، وإنّه لا يجزي عن ذلك طريق آخر، كالاعتماد على التقليد فيه أو الاستناد الى الأخبار والروايات.
وقد ادّعى العلاّمة الحلي في كتابه (الباب الحادي عشر (الاجماع على ذلك، حيث قال هناك: أجمع العلماء كافّة على وجوب معرفة الله تعالى، وصفاته الثبوتية والسلبية، وما يصح عليه وما يمتنع عنه والنبوة والإمامة والمعاد[2].
وهذا الاجماع المستفيض النقل يبدو أنّه هو العمدة في ادلة القائلين بأنّ المعرفة يجب أن تتولد عن طريق النظر والاستدلال، على ما ذكره السيد الحكيم (قد) في مستمسكه[3]، إلاّ أنّه يمكن المناقشة فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأمّا المحقق الحلّي قد فقد جزم بعدم جواز التقليد مطلقاً، وإن أورث الجزم واليقين في أصول الدين، فقال: المسالة الثانية: لا يجوز تقليد العلماء في اصول العقائد خلافا للحشوية ويدل على ذلك وجوه.....
وما صرّح به الشهيد الأول في الألفية هو وجوب الاستدلال في تحصيل المعرفة، وبعدم جواز التقليد في ذلك حيث قال هناك: ويجب أمامَ فعلها معرفة الله تعالى، وما يصح عليه ويمتنع، وعدله، وحكمته، ونبوّة نبيّنا محمد (صلى الله عليه واله) وإمامة الأئمة (عليهم السلام)، والإقرار بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه واله) كل ذلك بالدليل لا بالتقليد[4].
ومثله ما يُفهم من كلام الشهيد الثاني في شرحه للألفية، حيث يبدو منه حصر المعرفة بالدليل الذي يتميز بكونه يفيد المعارف التصديقية، حيث قال هناك: العلم بهذه الأشياء والمعرفة لها، قد تكون تصورية وقد تكون تصديقية؛ لانقسام العلم إليهما، والواجب من ذلك هو المعرفة التصديقية لا التصورية؛ لأنّ تصورها لا يوجب الحكم بالإسلام أو الإيمان من دون الحكم الجازم بثبوت ما هو ثابت منها وسلب ما هو منفي.
وإنّما لم يقيّد المصنّف المعرفة بالتصديقية -مع أنّ ذلك لازم كما قد عرفته- اكتفاءً بقوله أخيرا: (كلّ ذلك بالدليل)، فإنّ الدليل لا تكتسب به إلّا المعارف التصديقية، كما أنّ التصورية تكتسب بالقول الشارح[5].
أمّا صاحب الفصول فقد وصف القول بجواز التقليد في الأصول بأنّه: بعيد عن التحقيق، وأنّه أقرب الى طريقة العوام، ولا يليق بمقام العلماء، حيث قال: فاعلم أن القول بجواز التقليد في الأصول إنما يناسب طريقة العوام، فإن ساحة العلماء بعيدة عن ذلك[6].
وصرح صاحب المعالم (رحمه الله) بمنع التقليد مطلقاً، وإن ترتّب عليه الجزم في أصول الدين، حيث قال: الحق منع التقليد في اصول العقائد[7].
وعلى طبق هذا المبنى أفتى سماحة السيد السيستاني -دام ظله-، حيث كانت الاجابة على احد الاستفتاءات الواردة بخصوص هذا الشأن، هي عدم جواز ذلك وإن ترتب عليه الاعتقاد، وحكم بصحته، قال: لايجوز التقليد في أصول الدين، ولكن من اعتقد بها تقليداً، وأظهر ذلك كان مؤمناً، وترتّبت عليه أحكام المؤمنين، وبذلك يختلف عن أصحاب العقائد الأخرى[8].
ومن خلال تتبع كلماتهم التي نقلناها، وكلام غيرهم ممن لم يسع البحث نقله واتفقوا معهم في البناء على وجوب النظر والاستدلال، يمكن لنا أن نستخلص ونوجز ما ذهبوا اليه: بأن أصول الدين من قبيل الأمور التي يطلب العلم بها، وهو لا يحصل ألاّ عن طريق النظر وإقامة الدليل على المطلوب، وهو -أي العلم- وإن اتفق أن يحصل من غير طريق النظر، إلاّ أنّه يتصف بعدم الثبوت والتزلزل، بل والزوال، وهو ما لايتناسب مع أصول الدين، فالمطلوب فيها هو العلم الجازم الثابت غير الزائل، وهو لا يتأتّى إلاّ من خلال إقامة الدليل والبرهان.
ثم إنّهم أقاموا عدّة ادلة على ذلك الوجوب، لا يخلو واحداً منها من إمكان المناقشة فيه.
منها: الآيات الدالة على وجوب النظر، كقوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لايُؤْمِنُون)[9] ، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)[10].
ونحوها من الآيات الشريفة التي تحث على التفكّر والتدبّر في الكون وفي نفس الإنسان.
بتقريب: أن هذه الآيات وأضرابها ظاهرة في وجوب التفكر والنظر لتحصيل المعرفة به تعالى.
ويمكن مناقشته: بأنّ الظاهر منها إنّ التفكر والنظر إنّما سيق كمثال لتحصيل تلك المعرفة، أما لأنه الأكمل، أولأنه ابرز مصاديق الطرق في تحصيل المعرفة، وليس فيها دلالة على انحصار الطريق فيه، فهي لاتتعدى في دلالتها على الإرشاد الى تحصيل المعرفة والإيمان به تعالى، ولا ينحصر ذلك بالطريق المذكور فيها، وعليه، فلا يمكن الاستفادة منها بأن الطريق الى تحصيل المعرفة متوقف على التفكر والنظر فحسب، بلْ يمكن تحصيلها من طرق اخرى، كطريق الوحي والتلّقين، وهو ما حصل فعلاً للانبياء، ولبعض الاولياء، وهومن بديهيات الديانات التي لايمكن الخدشة فيها.
والخلاصة: إنّ الأمر المستفاد من هاتين الآيتين واضرابهما هو: الارشاد الى تحصيل المعرفة عن طريق التفكر، الذي هو أكمل الطرق، وأبلغ في سكون النفس الى نتائجه، والارشاد الى سلوكه فيهما لاينفي مشروعية سلوك غيره من الطرق التي تودي نفس النتائج وتحقق نفس الهدف.
ومنها: الآيات الشريفة الدالة على تحريم التقليد كقوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)[11]، وقوله تعالى: (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [12]، ونحوها من الآيات الشريفة التي نهت عن تقليد الأباء واتباعهم في الاعتقادات.
بتقريب: أنّها ظاهرة، بلْ صريحة في ذم التقليد مطلقاً، وترتب العتاب والعقاب عليه، فالتقليد اذاً باطل محرم بمقتضى هذه الطائفة من الآيات، وإنْ ترتب عليه الجزم والثبات كما يظهر منها.
ويمكن مناقشته: بأن ذلك النهي المستفاد لو تم على إطلاقه- بحسب المدّعى- فهو يختص بما كان قبل بعث الرسل اليهم لا مطلقا، أما بعد بعث الرسل وإنذارهم، وإقامة المعجزات والبراهين أمامهم وفيهم، لا يمكن أن يبقى أثرٌ لذلك الجزم؛ ضرورة أنّ ما عرض عليهم من منبهات للوجدان، وحقائق مشفوعة بالبرهان، ومعجزات ماثلة للعيان، كافٍ في زلزلة ذلك الجزم وازالته، وإحلال الشك والتردد محله.
فالذم، والعتاب، والعذاب في الآيات إنّما استحقوه بسبب تمسكهم بما كان عليه آباؤهم من الاعتقادات الباطلة حتى بعد زوال الجزم بها، عناداً وتعصباً منهم.
هذا لوسلمنا أنّ ما توارثوه عن ابائهم من آثارٍ، وممارساتٍ كان مستقراً في قلوبهم الى درجة الجزم والثبات.
ومنها: قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ)[13].
بتقريب: أن الآية ظاهرة في وجوب تحصيل العلم، والعلم هو الجزم الثابت المطابق للواقع، ومن المعلوم أنّ العلم لا يتحصّل من التقليد؛ لاحتمال الخطأ في قول المقلَّد -بالفتح-، ويلزم منه كذلك التناقض في المسائل الخلافية؛ وذلك لاختلاف أنظار المقلّدين -بالفتح-، فلا يمكن الاعتماد على التقليد في تحصيل العلم، فينحصر تحصيله في طريق واحد وهو النظر والاستدلال.
والخطاب في الآية الكريمة وإن كان موجها للنبي (صلى الله عليه واله) لكنه يجري على غيره أيضاً أما للتأسي به، او للأولوية.
ويمكن مناقشته: بأن التأسي ليس واجبا على الإطلاق، وهو وإن تمّ في كثير من الموارد إلاّ أنّ متعلقه هنا مقيد بالقدرة، فلا يشمل وجوبه كافّة المكلفين، فلا يترتب عليه وجوب المعرفة على غيره مطلقا كما ترتب عليه.
وأما الأولوية فهي ممنوعةٌ هنا، إذ لا شاهد واضحٌ عليها، بلْ إنّ ما اختص به النبي (صلى الله عليه واله) من الاحكام، وتفرّد به من المقامات، يشكّل مانعاً أكيداً، يحَول دون تعّدية الاحكام والخطابات الموجهة إليه (صلى الله عليه واله) إلى سائر المكلفين دون الاستناد إلى شاهدٍ أو مسوّغ لذلك، فاذا كان الحال هكذا في المنع من التسوية فإنّه لا شك يكون أولى في المنع من الأولوية المدّعاة.
وأما تفسير العلم على وفق ماهو المصطلح عند أهل المعقول- من أنّه الجزم بوصفه ثابتاً مطابقاً للواقع- فهو ليس عرفياً، إذ هو عرفاً لايعني أكثر من الجزم فقط بلا زيادة، وهو المعنى الذي جرى عليه أهل العرف والمحاورة.
ومنها: طائفةٌ من الاخبار الدالة على أنّ الإيمان هو ما استقر في القلب، كما ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) جوابا على سؤال محمد بن مسلم حول الإيمان، حيث أجاب عليه السلام انّه شهادة ان لا اله آله الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، وما استقر في القلوب من التصديق بذلك[14].
بتقريب: إنّ الإيمان هو ما استقر في القلوب وثبت، ولا استقرار إلاّ للمتيقّن، ولا يحصل اليقين الا بالاستدلال.
ويمكن مناقشته نقضاً وحلاً:
أمّا نقضاً: فإنّ بعض ما يتحصل من الاستدلال أيضاً مما هو عرضة للزوال، وتكفي في ذلك أدنى مراجعة للتاريخ، واسرعُ نظرة إلى الواقع.
وحلاً: بأنّ استقرار اليقين في القلوب ليس مختصاً بالاستدلال، بلْ ربما يحصل من غيره أيضاً كالتقليد مثلاً.
ومنها: الاجماع المستفيض النقل، والذي نقله العلامة قد في الباب الحادي عشر، وقد ذكرناه آنفا فراجع.
ويمكن المناقشة فيه: بأنّ معقد الإجماع إما أن يكون على بطلان المعرفة الحاصلة من التقليد وضعاً، وإن أورث ذلك علماً واعتقاداً للمقلّد -بالكسر-، من دون أن يترتب عليه الحكم بالحرمة لمخالفة الواجب الذي تضمنه، أو يكون المعقد فيه على حرمة مخالفة الوجوب الذي تضمنه تكليفا مع صحة ما يترتب على ذلك التقليد المحرم من العلم والإيمان، أو يكون المعقد فيه هو: عدم صحّة خصوص التقليد الذي لا يترتب عليه العلم والإيمان.
وعلى الأول: فإنّه يلزم منه إخراج أغلب المؤمنين عن ملة الأيمان، وتكون معرفتهم بحكم الجهالة، فيترتب عليها العقاب والخلود، وهو واضح التعسف، بل مخالف لضرورة الدين، وما تسالم عليه المتشرعة في سيرتهم بلا ردع ثابت عنها، وهو مما لايمكن الالتزام به ولا البناء عليه كما هو واضح.
وعلى الثاني: فتكون النتيجة فيه الحكم بفسق المكلف؛ لعصيانه الواجب الذي هو النظر والاستدلال، مع الحكم بأيمانه وصحة اعتقاداته؛ لأنه فعلا جازم بالعقائد الحقّة وإن كانت عن تقليد، وهو بهذا المقدار مما لابأس به، فأنه نافع في المقام؛ إذ أنّه لا يتنافى مع دعوى كفاية الجزم من التقليد.
وعلى الثالث: فيكون موضع وفاق مع الرأي الآخر أيضاً؛ إذ إنه لم يصحح التقليد في ذلك مطلقاً، حتى وإن لم يترتب عليه العلم والإيمان، فلا داعي إلى سوقه هنا كدليل على وجوب النظر.
إلاّ أنّ الظاهر من كلام العلّامة هو الأول، وهو عينه ما نقل عن الشهيد والمحققين الأول والثاني[15]،وهو مما لا يمكن الالتزام به لعدة أمور:
الأول: لما ذكرنا من اللازم الباطل، وهو خروج الأغلب عن الملة، ومخالفته للسيرة.
الثاني: إنّه لا يمكن أن يفيد القطع براي المعصوم؛ لأنّه إجماع منقول كما هو واضح.
الثالث: إنه محتمل المدرك، لإحتمال استناده الى احد الأدلة السابقة او بعضها، وقد علمت مافيها من الإشكالات.
الرابع: علمُنا بأن ثمةَ جماعة خالفت فحوى هذا الاجماع ممن جوزوا الظّن مطلقاً، أو ممن ذهبوا إلى كفاية الجزم وإن كان عن تقليد، وسنأتي قريبا على ذكرهم ونقل كلماتهم إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني: القول بجواز التقليد
ذهبت جماعةٌ أخرى من الأعلام إلى القول بكفاية الجزم بأصول الدين وإن كان ناتجاً عن تقليد، وخلاصة ما احتجوا به هو: أنّ المطلوب في الاعتقادات هو حصول الجزم واليقين بلا فرق بين أسبابه بين أن تكون بالاستدلال والبرهان، او بالتقليد؛ فإن القدر المتيقن فيما هو مطلوب هنا هو الجزم واليقين، وأمّا الزائد عن هذا المقدار فيحتاج الى مثبتٍ له، وحجةٍ عليه، وهو مفقود في المقام بعد ابطال ما سيق للدلالة عليه أنفاً.
والحاصل: أنّه يكفي الجزم الناتج عن التقليد في صحة الاعتقاد ويمكن الأجتزاء به. واليك كلمات بعض من ذهب الى القول بجواز التقليد المسبب للجزم:
قال الشيخ الطوسي (قد) في العدة: على أن الذي يقوى في نفسي: أنّ المقلد للمحق في أصول الديانات وإن كان مخطئاً في تقليده، غير مؤاخذ به، وإنّه معفو عنه، وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدمناها؛ لأني لم أجد أحداً من الطائفة، ولا من الأئمة عليهم السلام قطع موالاة من سمع قولهم، واعتقد مثل اعتقادهم، وإن لم يسند ذلك إلى حجة عقل أو شرع[16].
وقال الميرزا القمي (قد) في القوانين: فقد تقرّر بما قرّرنا أنّ الجزم المطلق يكفي في سقوط الإثم مع عدم التّقصير إذا حصل له الجزم، ويكتفى بالظنّ إذا لم يمكنه تحصيل الجزم، ولا دليل على وجوب تحصيل الجزم بتفاصيله الخاصّة، المسمّى باليقين في الاصطلاح، وهو ما لا يقبل الزّوال المطابق للواقع، ولا تحصيل ما يقبله ولكن كان مطابقا للواقع، وترتّب أحكام الكفر على بعض الصّور في الدّنيا لا نمنعه، ولا ينافي الحكم بسقوط الإثم، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى[17].
واما الشيخ الأنصاري (قد) فقد صرح بان وجوب النظر المستفاد من عمومات الآيات والأخبار هو وجوب توصلي لا تعبدي، وعليه فاذا حصلت المعرفة من طريق اخر غير النظر سقط وجوب تحصيلها بالنظر قال: فالإنصاف: أن المقلد الغير الجازم المتفطن لوجوب النظر عليه فاسق مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزمية بعقائده، بل قد عرفت احتمال كفره، لعموم أدلة كفر الشاك. وأما الغير المتفطن لوجوب النظر لغفلته أو العاجز عن تحصيل الجزم فهو معذور في الآخرة. وفي جريان حكم الكفر احتمال تقدم.
وأما الجازم فلا يجب عليه النظر والاستدلال وإن علم من عمومات الآيات والأخبار وجوب النظر والاستدلال، لأن وجوب ذلك توصلي لأجل حصول المعرفة، فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها بالنظر، اللهم إلا أن يفهم هذا الشخص منها كون النظر والاستدلال واجبا تعبديا مستقلا أو شرطا شرعيا للإيمان، لكن الظاهر خلاف ذلك، فإن الظاهر كون ذلك من المقدمات العقلية[18].
وأما السيد الحكيم (قد) فقد استظهر جواز النظر في حال الأمن من الظلال، وحرمته في حال خوف الظلال بسبب النظر، ووجوبه فقط في حال خوف الظلال بدونه.
قال في مستمسكه: وتمام الكلام في هذا المقام موكول إلى محله، كالكلام في وجوب كون المعرفة عن النظر والدليل -كما هو المنسوب إلى جمع- وعدم وجوبه -كما نسب إلى آخرين- وحرمته -كما نسب إلى غيرهم- وان كان الأظهر الأول مع خوف الضلال بدون النظر، والأخير مع خوف الضلال به، والثاني مع الأمن من الضلال على تقدير كل من النظر وعدمه فراجع وتأمل[19].
وقد أفاد السيد الخوئي (قد) بأن المطلوب في الأمور الاعتقادية هو مجرّد العلم واليقين، من دون تحديد طريقه بالبرهان او غيره، بل إنّه قد ذهب الى أبعد من ذلك، حيث قرب أن حصول اليقين من قول الغير يرجع حقيقةً الى البرهان، فيدخل هذا الصنف من اليقين تحت عنوان النظر والبرهان أيضاً، قال في التنقيح: نعم، هناك كلام آخر في أنه إذا حصل له اليقين من قول الغير يكتفي به في الأُصول، أو يعتبر أن يكون اليقين فيها مستنداً إلى الدليل والبرهان؟ إلّا أنه أمر آخر أجنبي عمّا نحن بصدده، وإن كان الصحيح جواز الاكتفاء به؛ إذ المطلوب في الاعتقاديات هو العلم واليقين بلا فرق في ذلك بين أسبابهما وطرقهما، بل حصول اليقين من قول الغير يرجع في الحقيقة إلى اليقين بالبرهان؛ لأنه يتشكّل عند المكلّف حينئذٍ صغرى وكبرى فيقول: هذا ما أخبر به أو اعتقده جماعة، وما أخبر به جماعة فهو حق، ونتيجتهما: أنّ ذلك الأمر حق، فيحصل فيه اليقين بأخبارهم[20].
وعلى طبق هذا المبنى أفتى سماحة السيد محمد سعيد الحكيم (قد)، حيث كان جوابه على أحد الأسئلة التي وردته في هذا الشأن هو:
الثابت بأدلّة جواز التقليد هو جوازه في الأحكام العملية الفرعية، أما غيره من الأمور الاعتقادية فهي على نحوين:
الأول: ما يجب الاعتقاد به، كـالإمامة، واللازم تحقق الاعتقاد المذكور، فإن كان الرجوع للغير موجباً لحصول الاعتقاد أجزأ –وإن كان المكلف غير معذور لو تحقق الخطأ لتقصيره في سبب الاعتقاد-، وإن لم يوجب الاعتقاد –لاحتمال خطأ من رجع إليه– لم يجزئ، لعدم تحقق الواجب.
الثاني: مالا يجب الاعتقاد به، لكن لابُدَّ من عدم القول به إلابعلم –من باب أن الإنسان مسؤول عما يقول- ،ولا يجوز القول بغير علم كحساب القبر، ومنكر ونكير، وتطاير الكتب، فإن ْتحقق العلم ُمن قول الغير جاز القول به، وإن لم يتحقق لم يجز القول به، بعد ما ذكرنا من اختصاص جواز التقليد بالأحكام العمليةR[21].
الخاتمة: في نتائج البحث
يمكننا من خلال ما استعرضناه من كلمات الأعلام، ومما أفادوا من أدلتهم في هذا المقام، وما وقع بينهم من اختلاف في الرؤى والأنظار، وما دار بينهم من نقض وإبرام، أن نستخلص بعض النتائج، ونخرج بشيء من الثمرات، تجعلنا على بصيرة في تحديد الموقف النهائي من هذه المسألة المعرفية المهمة، ويمكن بيان ذلك من خلال النقاط التالية:
الأولى: إنّ الادلة التي دلّت على الاباحة - بمعناها الأعم ـللتقليد، والتي عمدتها ارتكاز العقلاء فضلاً عن سيرتهم وسلوكهم، هي أدلة عامة صالحة لاثبات ذلك في جميع موارد التقليد، ولا تختص في مورد رجوع الجاهل الى العالم في فيما يقتضي العمل من الاحكام الشرعية الفرعية، بل تصلح ايضاً للدلالة على اثبات جوازه في مورد ما يقتضي العلم به من المعارف والاعتقادات؛ اذ أنّ المقتضي تام وصالح لشمول كلا الموردين، ولم يكن توقف الاعلام الذين منعوا التقليد في الاعتقادات من جهة عدم المقتضي في الادلة لذلك، بل من جهة منع الادلة التي سيقت على عدم جوازه في مورد الاعتقادات، والتي عمدتها الاجماع المستفيض النقل الذي نقله العلامة (قد).
اما عندنا، فان ذلك الاقتضاء يبقى ساريا وشاملا لجميع الموارد بلا مانع، بعد أن أبطلنا جميع ما سيق من أدلة قد تصلح للمنع من شمول أدلة جواز التقليد لبعضها، لا سيما الاجماع المستفيض الذي عُدّ أقواها وأمتنها.
الثانية: إنّ الظاهر من كلمات الأعلام عندما يطلقون القول: بعدم جواز التقليد في أصول الدين، هو ذلك التقليد المعهود المتعارف في الفروع، والذي لا يولّد في العادة أكثر من الظن بصدقه ومطابقته للواقع، اللهم ألاّ في بعض الاحكام التي تُعد من ضرورات الدين، بل إنّه لا يطلب من المكلف اي مرتبة من الالتزام القلبي تجاهها؛ إذ إنّ المطلوب فيها هو الالتزام العملي لا اكثر، وإن كان الموقف القلبي تجاهها هو الظن، بل الشك والريبة، ولو من جهة ثقل التكليف، كما في بعض الموارد التي تكون فيها الاحكام مخالفة لهوى النفس ومصالح الذات، وهو مما لا يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل.
الثالثة: إنّ المطلوب من المكلف في الأمور الاعتقادية هو حصول الجزم واليقين الذي هو القدر المتيقن في المسألة، وأمّا ما زاد على ذلك من تحديد السبب والطريق وحصره بالنظر والبرهان فلا دليل عليه- بعد ابطال ما سيق لاثبات الحصر -، ويترتب عليه القول بعدم الزام المكلف بطريق خاص لتحصيل الاعتقاد بتلك المعارف، بل إنّ المدار في الإجزاء على النتيجة المتحصّلة وإن كانت من سبب آخر غير النظر والتقليد، كما هو واقع فعلاً، فان الكثير ممن اسلموا وآمنوا، وحسن اسلامهم، وايمانهم، واعتقادهم، كان السبب في ذلك عندهم هو حسن السيرة، والمروءة، ومكارم الاخلاق التي كان يتصف بها النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) واهل بيته (عليهم السلام)، كما هو واضح جلي لمن راجع سيرتهم، وطالع شيئاً من حوادثهم عليهم السلام.
وعليه فيكون الحكم بصحة الاعتقادات المتولّدة من تلقين الآباء والاجداد، ونحوهم كالمربين، والمعلمين، والوعّاض مما لا مجازفة فيه.
ومن هنا ذهب السيد السبزواري (قد) الى الحكم بصحة الاعتقادات المتولدة عن مثل هذه الاسباب، حيث قال: لا يعتبر في المعرفة أن تكون حاصلة عن الاستدلالات الكلامية والحكمية، أو غيرهما من البراهين العلمية، بل يكفي حصول الاعتقاد والجزم ولو من تلقين الآباء، والاجداد ونحوهم؛ للاتفاق على صحة إسلام العوام وغيرهم، ممن حصل لهم الجزم بها مما ذُكر، ولا يقدرون على شيءٍ أزيد منه[22].
الرابعة: يبقى طريق النظر والاستدلال هو المصداق الابرز والسبب الاكمل، من طرق واسباب تحصيل المعرفة وترتيب الآثار عليها، كما أنّ تحصيل الجزم، والقطع، واليقين بتلك المعارف من أكمل وأشرف درجات العلم بها، ولا يمنع ذلك من صحة حصول مجرّد الاطمئنان بها، فهو كاف في البناء عليها والالتزام بها وترتيب الآثار عليها كما هو عليه ديدن العقلاء في سلوكهم، فإنّ للاعتقاد مراتب ودرجات متفاوتة، ولا ينبغي حمل متعلّق الواجب في هذا المورد وأمثاله على أكمل مراتبه وأشرف مصاديقه؛ ضرورة تحقق الامتثال بمجرد ايجاد أحد افرادها، بغض النظر عن مراتبها ودرجاتها.
الخامسة: إنّ جواز الرجوع الى الغير في تحصيل العلم بالاعتقادات منحصرٌ في صورة عدم تمكن المكلف من اقامة البرهان وترتيب الاستدلال عليها، ولا يتبادر الى الذهن أنّ المقصود من الاستدلال والبرهان هنا هو خصوص ما تعارف عليه في المنطق والحكمة ونحوها، بل يكفي في صدقه وكفايته هنا أدنى مراتبه وابسطها مما هو متاح لاغلب العامّة.
[1]- وهو المحكي عن جماعة منهم: المحقق الطوسي (رحمه الله) في بعض الرسائل المنسوبة إليه، وحكي نسبته إليه في فصوله ولم أجده فيه، وعن المحقق الأردبيلي (رحمه الله) وتلميذه صاحب المدارك (رحمه الله)، وظاهر شيخنا البهائي والعلامة المجلسي والمحدث الكاشاني وغيرهم (قدس الله أسرارهم)، ينظر: فرائد الأصول: 1/554.
[2]- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر:١٧.
[3]- مستمسك العروة الوثقى:1/104.
[4]- الألفية في فقه الصلاة اليومية:٣٨.
[5]- المقاصد العلية في شرح الرسالة الألفية:٤٠.
[6]- الفصول الغروية: ٤١٦.
[7]- معالم الدين وملاذ المجتهدين:1/110.
[8]- موقع مكتب سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني-دام ظله-، استفتاء رقم:31، ومثله في المعنى استفتاء رقم:28، مما ورد في استفتاءات التقليد.
[9]- سورة يونس: ١٠١.
[10]- سورة الروم: ٨.
[11]- سورة البقرة :١٧٠.
[12]- سورة الزخرف: ٢٢.
[13]- سورة محمد: ٤٧.
[14]- الكافي: ٢/38.
[15]- ينظر: فرائد الأصول: ١/٥٥٣.
[16]- عدة الأصول: ٢/٧٣١.
[17]- القوانين المحكمة في الأصول: ٤/٣٥٨.
[18]- فرائد الأصول: ١/٥٨٤.
[19]- مستمسك العروة الوثقى: ١/١٠٤.
[20]- التنقيح في شرح العروة الوثقى: ١/٣٤٩.
[21]- موقع مكتب سماحة المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (قد)، الاستفتاءات في التقليد.
[22]- تهذيب الاصول: 2/139.