جواب إشكال حول علم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بوقت وفاتهم
الشيخ علي آل محسن
قال بعض المخالفين للشيعة: إن الكليني ذكر في كتاب الكافي: «أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم»[1]. كما أن المجلسي ذكر في كتابه بحار الأنوار حديثاً يقول: «لم يكن إمام إلا مات مقتولاً أو مسموماً»[2]. فإذا كان الإمام يعلم الغيب كما ذكر الكليني والحر العاملي، فسيعلم ما يقدَّم له من طعام وشراب، فإن كان مسموماً علم ما فيه من سم وتجنَّبه، فإن لم يتجنَّبه مات منتحراً؛ لأنه يعلم أن الطعام مسموم! فيكون قاتلاً لنفسه، وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وعلى آله) أن قاتل نفسه في النار! فهل يرضى الشيعة هذا للأئمة؟!
والجواب: أن هذه الشبهة تندفع بجواب واحد من عدة جوابات:
-
أن كل روايات الباب التي رواها الكليني (قدس سره) لا تدل على عنوان الباب، وهو: «أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيار منهم»؛ وجملة منها روايات ضعيفة.
أما الرواية الأولى: فإن في سندها عبد الله بن القاسم البطل، وهو إما الحارثي كما في رجال ابن الغضائري، أو الحضرمي كما في رجال النجاشي، وسواء أكان هذا أم ذاك فلم يثبت توثيق أي منهما، فإن النجاشي ذكر أن الحارثي ضعيف غالٍ، ووصف الحضرمي بأنه كذاب غالٍ، يروي عن الغلاة، لا خير فيه، ولا يعتد بروايته.
ومع الإغماض عن سند الرواية فإنها تدل على أن الإمام يعلم ما يصيبه وما يصير إليه، ولكنها لا تدل على أنه لا يموت إلا باختياره.
والرواية الثانية: في سندها شيخ من أهل قطيعة الربيع من العامة ببغداد، وهو مجهول، لا يمكن قبول روايته، وهي تدل على الإمام الكاظم (عليه السلام) أخبر جماعة من وجوه بغداد أنه (عليه السلام) سيموت بعد غد، بسبب دس السُّم إليه في سبع تمرات، وهذا لا دلالة فيه على أن كل إمام (عليه السلام) يعلم متى يموت، وأنه لا يموت إلا باختياره.
والرواية الثالثة: في سندها أبو جميلة، وهو المفضل بن صالح، وهو لم يثبت توثيقه، والرواية تدل على أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أخبر ابنه الإمام الباقر (عليه السلام) في الليلة التي توفي فيها أنه سيُقبض في هذه الليلة، وهذا لا يدل على أنه توفي باختياره، مع أن مثل ذلك يحصل لكثير من الناس، فيعاين أمارات الموت، ويخبر بقرب موته.
والرواية الرابعة: في سندها سهل بن زياد، وهو لم يثبت توثيقه، وفيها أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خُيِّر ليلة مقتله بين البقاء ولقاء الله تعالى، فاختار اللقاء، «لتمضي مقادير الله تعالى»، أي لأن الله تعالى قدَّر ذلك، فأراد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسلَّم بما قدره الله تعالى له.
والرواية الخامسة: رواية مرسلة عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، وهي تدل على أن الله تعالى خيَّر الإمام بين الشيعة أو نفسه، فاختار الشيعة ووقاهم بنفسه، والمراد بها هو أن الإمام (عليه السلام) لما اشتدت به المحن والبلايا دار الأمر بين أن يحفظ نفسه، فيقع البلاء على شيعته، أو يوطِّن نفسه على البلاء، فيحفظ شيعته، فاختار البلاء لنفسه، وعليه فالرواية لا تدل على أن الإمام يعلم متى سيموت، وأنه سيموت باختياره.
قال المولى المجلسي (أعلى الله مقامه): «غضب على الشيعة» إما لتركهم التقية، فانتشر أمر إمامته (عليه السلام)، فتردَّد الأمر بين أن يقتل الرشيدُ شيعته ويتتبَّعهم، أو يحبسه عليه السلام ويقتله، فدعا (عليه السلام) لشيعته، واختار البلاء لنفسه.[3]
والرواية السادسة: جاء فيها أن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) البارحة وهو يقول: «يا علي ما عندنا خير لك»، وهذا لا دلالة فيه على ما ورد في عنوان الباب.
والرواية السابعة: دلَّت على أن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) سمع في مرض موته الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول له: «يا محمد تعال، عجِّل»، وهذا لا دلالة فيه على أن الإمام لا يموت إلا باختياره، كما أنها واردة في مورد خاص.
والرواية الثامنة: دلَّت على أن الإمام الحسين (عليه السلام) خُيِّر بين النصر وبين لقاء الله تعالى، فاختار لقاء الله سبحانه، وهو من باب التسليم بما قدره الله تعالى له وقضاه عليه، لا من باب أنه لا يموت إلا باختياره، ولو سلمنا فلا يدل الحديث على أن ذلك عام لكل أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
والحاصل أن أكثر روايات الباب ضعاف، والصحيح منها لا يدل على عنوان الباب، ومن خُيِّر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بين الموت والحياة، فاختياره للموت إنما هو من باب التسليم لأمر الله وقضائه، مع كونه خاصًّا بمورده.
- لعل مراد الكليني (قدس سره) بعنوان الباب هو أن الله تعالى بواسطة نبيِّه (صلى الله عليه وآله) أطلع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على وقت موتهم، كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) بما يجري عليهما، وبزمان قتلهما، فكذلك وصل خبر موت كل إمام عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرواية الصحيحة التي تلقّاها كل إمام عن الإمام السابق له، وهذا لا إشكال فيه.
ولعل مراده (قدس سره) بقوله: «ولا يموتون إلا باختيار منهم» هو أنهم (عليهم السلام) لما سلَّموا بأمر الله وقضائه، كان تسليمهم دليلاً على الرضا والقبول بما يجرى عليهم، فكأنه جرى باختيارهم، وهذا لا إشكال فيه أيضاً.
-
أن إلقاء النفس في التهلكة ليس محرَّماً على إطلاقه وفي جميع الموارد؛ لأنه إذا كان بأمر الله تعالى فإنه يجب، ولهذا يجب على كل مسلم أن يفدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بنفسه ولو بإلقائها في التهلكة، كما يجب الجهاد في سبيل الله تعالى كفاية على كل مسلم وإن علم أنه سيُقتل في ميدان القتال، فإن علمه بالقتل لا يسوِّغ له ترك الجهاد، أو الفرار عند الزحف، وهذان الرجلان يصدق عليهما بهذا اللحاظ أن موتهما كان باختيار منهما.
وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، والإمام (عليه السلام) مع علمه بأنه يُقتل فإنه مأمور بالذهاب إلى موضع قتله، كما هو حال الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسين (عليهما السلام)، لحكم ومصالح نحن لا نعلم بها.
-
أن الشيعة يعتقدون أن البداء لله تعالى، وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وإن علموا بوقت موتهم، إلا أن الله تعالى له أن يبدِّل ذلك، فيندفع عنهم الموت بأي سبب من الأسباب، كالصدقة التي تدفع البلاء المبرم، أو الدعاء الذي ربما يرد القضاء. أي أن علم الإمام (عليه السلام) بموته ليس حتميًّا، بل هو ظني بسبب البداء، وحال ظن الإمام (عليه السلام) بموته حال ظن المجاهد في سبيل الله بموته، فإن ظنه بموته بحسب ما يرى من قوة الكفار وضعف المسلمين في ميدان القتال، لا يعني أنه إذا استمر في قتال الكفار أنه ألقى بنفسه في التهلكة.
-
أن الله تعالى جعل ذلك امتحاناً لطاعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، واختباراً لانقيادهم، ورفعاً لدرجاتهم، وإعلاء لمكانتهم، وإجزالاً لثوابهم، وليعلم الناس فضلهم، وعظم خوفهم من الله سبحانه، وشدّة تفانيهم من أجل دينه وفي سبيله، وأنهم مستحقون للإمامة العظمى، وأن غيرهم لا يبلغ منزلتهم، ولا يدانيهم في فضل.
-
أنه روي في كتب أهل السنة أن كعب الأحبار علم بمقتل عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.
فقد أخرج ابن سعد في الطبقات حديثاً جاء فيه أن كعب الأحبار قال لعمر: والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة.[4]
بل أخبر عمر بمقتله قبل وقوعه بثلاثة أيام، فقد جاء في تاريخ الطبري وكتاب الكامل لابن الأثير أن أبا لؤلؤة توعَّد عمر، ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار، فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد، فإنك ميت في ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة. قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكني أجد حليتك وصفتك، وأنك قد فني أجلك. قال: وعمر لا يحس وجعاً، فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان. فلما كان الغد جاءه كعب فقال: مضى يومان، وبقي يوم. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت كبَّر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان، نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرَّته وهي التي قتلتْه...
فلما ضُرب عمر دخل عليه كعب الأحبار مع الناس، فلما رآه عمر قال:
تَوَعَّــدَني كَعْــبٌ ثَلاثاً أعـــدُّهَــا |
|
ومَا بي حِذَارُ الموْتِ، إِني لميِّتٌ |
وَلا شَكَّ أنَّ القَوْلَ مَا قَالَ لي كَعْبُ |
|
ولَكِنْ حِذَارُ الذَّنْبِ يَتْبَعُه الذَّنْبُ[5] |
ومن (تنبؤاته) أيضاً ما ذكره ابن حجر في فتح الباري عن كتاب (السِّيَر) عن الحارث بن مسكين عن ابن وهب، قال: أخبرني مالك أن كعب الأحبار كان يقول عند بنيان عثمان المسجد: لوددتُ أن هذا المسجد لا ينجز، فإنه إذا فُرِغ من بنيانه قُتِل عثمان. قال مالك: فكان كذلك.[6]
فإذا كان كعب الأحبار قد علم بمقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلم بأمور أخرى غيرها، فلا أدري ما هو وجه الاستغراب في أن يعلم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالتلقي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوقات موتهم؟!
-
أن إشكال الإلقاء بالنفس في التهلكة يمكن أن نلزم به المخالفين بنفس الحجة التي احتجوا بها علينا، فإن الروايات الصحيحة التي رواها أهل السنة في كتبهم دلّت على أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنه سيقتل في كربلاء، ومع ذلك فإنه ذهب إلى العراق وهو يعلم أنه سيُقتل في كربلاء.
وقد روى ابن كثير في البداية والنهاية 8/165، والذهبي في سير أعلام النبلاء، والمزي في تهذيب الكمال 6/418 وغيرهم أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتب إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كتاباً يحذرّه أهل الكوفة، ويناشده الله أن يشخص إليهم، فكتب إليه الحسين: إني رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمرني بأمر أنا ماضٍ له، ولستُ بمخبر بها أحداً حتى ألاقي عملي.
فهل يعتقد هذا المخالف أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد انتحر بذهابه إلى كربلاء؟ أي هل يقول: إن الإمام الحسين (عليه السلام) الذي هو صحابي فقط بنظره يمكن أن ينتحر، فيكون من أهل النار؟