الحاجة الى علم الرجال
إنّ علم الرجال هو أحد الركائز الّتي تعتمد عليها عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة، بل لا يمكن الاستغناء عنه في استنباط الأحكام.
وبيان ذلك: إنّ مدارك الأحكام الشرعيّة لا تخرج عن أربعة، وهي: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعقل، وعمدتها الكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب: فهو وإن كان فيه تبيان كلّ شيء إلاّ أنّنا لا نستطيع معرفة خصوصيات الأحكام وجزئياتها منه.
وأمّا السنّة: فإن كانت متواترة أو محفوفة بالقرينة فهي موجبة للعلم، إلاّ أنّ ما ورد من روايات الأحكام على هذين النحوين قليل جداً لا يفي بالحاجة، وإن كانت أخبار آحاد فإمّا أن تكون كلّها حجّة، أو لا حجّية في شيء منها، وأمّا أن يكون بعضها حجّة دون بعض.
أمّا الأوّل: فهو باطل لما سيأتي.
وأمّا الثاني: فهو باطل أيضاً لاستلزامه الخروج عن الدين.
وحينئذ يتعيَّن الثالث، فلا بدّ من تمييز ما هو الحجّة منها عن غيره.
والمتكفِّل لذلك هو علم الرجال، فإنّه الباحث عن توفُّر شرائط الحجّية من وثاقة الراوي أو عدالته، وإمكان روايته أو عدمه، وغيرها.
كما أنّ المتكفِّل لأمر أساسيٍّ آخر وهو البحث عن مدى دلالة الروايات، وحجّية ظواهرها، وما يرتبط بذلك هو علم الأصول.
وأما من جهة الإثبات ـ أي مع ملاحظة الدليل الشرعي ـ : فدليلنا على ذلك يتلخَّص في أمرين: ثبوت المقتضي، وعدم وجود المانع، فيقع الكلام في مقامين:
الأوّل: في ثبوت المقتضي، وبيانه:
إنّ السبيل لإثبات أكثر الأحكام الشرعيّة ينحصر في الطرق الظنيّة، لندرة تحصيلها عن طريق العلم، وعمدة الطرق الظنيّة أخبار الآحاد. وقد تقرَّر أنّ الظنّ بنفسه ليس بحجّة لورود الآيات والروايات النّاهية عن اتِّباع الظنّ وأنّه لا يغني من الحقّ شيئاً، فلا بدّ من التماس طريق آخر لإثبات حجّية هذه الأخبار. وقد أقام علماء الأصول الأدلّة لإثبات حجِّيَّتها، وعمدة هذه الأدلّة آية النبأ وهي قول اللّه عزَّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»[1]. وتعرّضوا لدلالة الآية نفياً وإثباتاً، وخلاصة ما قرَّروه: أنّ الآية ممّا يُتَمَسَّك بها على حجّية خبر العادل أو الخبر الواحد الّذي قامت قرينة أو دلالة على صحّته. كما أنّ الروايات الواردة في المقام[2]، وسيرة المتشرِّعة، وبناء العقلاء دلائل على أنّ خبر الثقة ممّا يُعوَّل عليه ويُؤخذ به.
والنتيجة: أنّ أخبار الآحاد ـ وإن لم تُفِد العلم ـ قد ثبتت حجيّتها بالأدلّة المذكورة، وهي بمنزلة العلم، ولكن فيما إذا كان الراوي جامعاً لشرائط القبول، من الوثاقة، والعدالة، ونحوهما، وما لم يكن جامعاً للشرائط فلا يؤخذ بخبره ويكون داخلاً تحت عموم النهي عن العمل بالظنّ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أنّهم ذكروا في باب التعارض أنّ من المرجِّحات لرواية على أخرى؛ الأوثقيّة والأورعيّة وغيرهما[3]، ومن المعلوم أنّ المتكفِّل لبيان توفُّر هذه الشرائط والمرجِّحات هو علم الرجال. وممّا يؤكِّد ذلك أمران:
- ما ذكره الأصوليّون، ومنهم الشيخ الأنصاري قدس سره، من عدم صحّة العمل بالظنّ إلاّ بعد إحراز حجيّته، وأنّ الشك في الحجّية مساوق لعدمها[4]، فلا يجوز العمل بأخبار الآحاد ما لم تتوفَّر فيها شرائط الحجيّة، وإحراز الشرائط إنّما يتمُّ في علم الرجال.
- إنّ التعارض بين الأخبار كثير جداً، حتى أنّ شيخ الطائفة قدسسره ، وضع كتاب (الاستبصار) لمعالجتها، فمسَّت الحاجة إلى علم الرجال.
وبما ذكرنا يتَّضح مدى أهميّة علم الرجال، وأنّه ضروري لا يمكن الاستغناء عنه[5].