كتاب تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
وقد كثر الكلام حول هذا الكتاب، واختلفت الأقوال فيه، ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة أقوال:
الأوّل: ما ذهب إليه بعض الأعلام من عدم اعتبار الكتاب، وأنّه لا يليق أن يصدر عن الإمام عليه السلام، فجميع ما ورد فيه غير معتبر.
الثاني: ما ذهب إليه آخرون من أنّه من الكنوز والأسرار الصادرة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام، فجميع ما ورد فيه معتبر.
الثالث: ما ذهب إليه قسم ثالث من التفصيل، فإنّ الكتاب يشتمل على بعض الروايات المعتبرة كما يشتمل على غيرها ممّا هو غير معتبر، ومثله مثل سائر كتب الروايات.
أمّا القول الأوّل: فهو مذهب كثير من العلماء كابن الغضائري[1]، والعلاّمة الحلّي[2]، والمحقّق الداماد[3]، والسيّد الأستاذ[4] وغيرهم قدس اللّه أسرارهم، فإنّهم ذكروا أنّ من يقف على هذا الكتاب يرى أنّه لا يصدر عن عالم فضلاً عن الإمام المعصوم عليه السلام.
وأمّا القول الثاني: فهو مذهب المجلسيين، وصاحب الوسائل[5] قدست أسرارهم، وقد أكد على ذلك المجلسي الثاني قدس سره حيث قال عنه أنّه: «من الكتب المعروفة واعتمد الصّدوق عليه وأخذ منه وإن طعن فيه بعض المحدّثين، ولكنّ الصّدوق رحمه الله أعرف وأقرب عهداً ممّن طعن فيه، وقد روى عنه أكثر العلماء من غير غمز فيه»[6].
وقال صاحب الوسائل قدس سره: «وقد اعتمد عليه رئيس المحدّثين ابن بابويه فنقل منه أحاديث كثيرة في كتاب من لا يحضره الفقيه وسائر كتبه»[7].
وقد مرّ أنّ الصّدوق رحمه الله ذكر أنّه لا يورد في كتابه (من لا يحضره الفقيه) إلاّ ما كان حجّة بينه وبين اللّه تعالى، فكيف يروي الصّدوق ـ وهو خريت هذه الصناعة ـ عن هذا الكتاب لو لم يكن قائلاً بصحّته؟
وأمّا القول الثالث: فهو الّذي نختاره، وأن الكتاب كسائر كتب الروايات منها ما هو مقبول ومنها ما لا يمكن قبوله، حيث اشتمل على ما يخالف بعض ما ورد في كتب السيرة والتاريخ، كقضايا الحجّاج والمختار، كما اشتمل على ذكر بعض القضايا الغريبة الخارقة للعادة ممّا يبعد التصديق به، إمّا لعدم المقتضي، وأمّا لافتقاره للدليل، ولعلّ هذا هو السبب في عدم قبول جماعة من العلماء صدور هذا التفسير عن الإمام المعصوم عليه السلام، مضافاً إلى ضعف الطريق إلى الكتاب كما سيأتي ـ .
قال السيّد الأستاذ قدس سره: «هذا مع أنّ الناظر في هذا التفسير لا يشك في أنّه موضوع، وجلّ مقام عالم محقّق أن يكتب مثل هذا التفسير فكيف بالإمام عليه السلام؟»[8].
وقد وقفنا على قسم من الكتاب وحاصل ما تبين لنا: أنّ القول بأنّ جميع الكتاب موضوع لا يمكن الموافقة عليه، فإنّ مصدر القول بالوضع هو ابن الغضائري، وتابعه العلاّمة في خلاصته[9]، وغيره كالمحقّق الداماد، والسيّد الأستاذ.
وكلام ابن الغضائري لا يعوّل عليه، كما لا يمكننا الموافقة على القول بأنّ الكتاب كلّه صادر عن الإمام عليه السلام، لعدم الدليل على ذلك، وحينئذ فالكتاب مثله مثل سائر الكتب فإن كانت الرواية تامة سنداً ودلالة أخذنا بها وإلاّ فلا.
الطريق إلى الكتاب:
فهو إلى الصّدوق معتبر، وأمّا منه إلى الإمام عليه السلام ففيه ثلاثة أشخاص وهم: أبو القاسم محمّد الإسترابادي، وأبو الحسن علي بن محمّد بن سيّار، وأبو يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد. والأوّل من هؤلاء الثلاثة يروي التفسير عن الآخرين، وهما يرويانه عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام. أمّا الإسترابادي فهو وإن لم يرد فيه توثيق إلاّ أنّه أحد مشايخ الصّدوق[10]، وروى عنه كثيراً وقد ترضّى عنه[11]، وترحم عليه[12]، والترضّي عن شخص وإن كان لا يعد توثيقاً بحسب الاصطلاح إلاّ أنّنا رجحنا ـ كما سيأتي ـ دلالته على التوثيق، وقد عبر عنه الصّدوق تارة بمحمّد بن القاسم المفسر، وأخرى بمحمّد بن القاسم الجرجاني المفسر، وثالثة بمحمّد بن القاسم الإسترابادي، ورابعة بمحمّد بن القاسم الإسترآبادي المعروف بأبي الحسن الجرجاني المفسر. وأمّا الآخران فلم يرد فيهما توثيق، ولم يذكرا بمدح ولا ذمّ، نعم ورد أنّهما من الشيعة وقد هربا مع أبويهما من إسترآباد إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، إذ كانت الزيدية غالبة بإسترآباد، وكانت في إمارة الحسن بن زيد العلوي الملقب بالداعي إلى الحق إمام الزيدية، وكان كثير الإصغاء إليهم يقتل الناس بسعاياتهم فخافوا على أنفسهم وخرجوا بأهليهم إلى حضرة الإمام الحسن بن علي بن محمّد أبي القائم عليه السلام ، فأنزلوا عيالهم في بعض الخانات ثمّ استأذنوا على الإمام الحسن بن علي عليه السلام فلما رآهم قال: «مرحباً بالآوين إلينا الملتجئين إلى كنفنا قد تقبل اللّه سعيكما وآمن روعتكما وكفاكما أعداءكما فانصرفا آمنين على أنفسكما وأموالكما، ثمّ أمرهما عليه السلام بأنّ يخلفا ولديهما ليفيدهما العلم الّذي يشرفهما اللّه به. قال أبو يعقوب، وأبو الحسن: فأتمرا بما أمر وخرجا وخلفانا هناك، فكنا نختلف إليه فيلقانا ببر الآباء وذوي الأرحام الماسة، فقال لنا ذات يوم: إذا أتاكما خبر كفاية اللّه عزّ وجلّ أبويكما وإخزاؤه أعدائهما وصدق وعدي إياهما جعلت من شكر اللّه عزّ وجلّ أن أفيدكما تفسير القرآن مشتملاً على بعض أخبار آل محمّد فيعظم بذلك شأنكما، قال: ففرحنا ...»[13].
وهذه الرواية وإن تضمنت مدحاً وعناية من الإمام عليه السلام، إلاّ أنّه لا يمكن الاعتماد عليها، لأنّ الراوي لهذه الرواية نفس الشخصين المذكورين.
والنتيجة: أنّ الطريق إلى الكتاب ضعيف، فإنّ كان ثمت طريق آخر معتبر للروايات الواردة في الكتاب أخذ بها وإلاّ فلا. وأمّا ما ذكره صاحب الوسائل من أنّ الصّدوق قد روى في كتابه قدس سره (من لا يحضره الفقيه) وسائر كتبه عن هذا التفسير، ففيه: أنّ الصّدوق نقل في الفقيه رواية في التلبية والطريق فيها مختلف فهي في الفقيه مروية عن الأبوين، عن الإمام عليه السلام[14]، وهي في التفسير عن الولدين، عن الإمام عليه السلام[15]، وما في الفقيه هو سند صاحب الوسائل إلى الرواية. على أنّ مطابقة مورد أو موردين أو ثلاثة من التفسير لما في الفقيه ليس دليلاً على صحّة جمع ما فيه، مضافاً إلى أنّه من المحتمل أن يكون لما رواه في الفقيه طريق آخر غير طريق التفسير، وحينئذ فلا تنافي بين ما ذكره الصّدوق في مقدّمة الفقيه وما نقله فيه عن التفسير. وأمّا ما رواه الصّدوق في سائر كتبه عن التفسير، فجوابه واضح، إذ لم يتعهد فيها بأنّه لا يروي إلاّ الصحيح، إلاّ كتاب المقنع، وقد مرّ الكلام عنه ولم ينقل الصّدوق فيه رواية عن التفسير، وقد عثرنا على عدّة موارد نقلها الصّدوق في أماليه، والتوحيد، ومعاني الأخبار عن التفسير، ومن ذلك ما جاء في معاني الأخبار في تفسير «بسم اللّه»[16] وتفسير «اهدنا الصراط المستقيم»[17] وتفسير «ألم»[18] وهي عين ما جاء في التفسير. ومنه أيضاً ما جاء في كتاب التوحيد من تفسير «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم»[19] وتفسير «الّذي جعل لكم الأرض فراشاً»[20]. وروى في أماليه أيضاً بسنده المذكور في الفقيه موردين أحدهما في الحب في اللّه والبغض في اللّه[21]، والآخر حول البسملة من سورة الفاتحة وشأن هذه السورة[22]. إلى غير ذلك من الموارد الّتي نقل فيها الصّدوق عن التفسير في هذه الكتب وفي غيرها من سائر كتبه، إلاّ أنّ جميع هذه الموارد لا تستوجب اعتبار الكتاب لما ذكرناه آنفاً.
لا يقال: إنّ الصّدوق قد اشتبه في النسبة، فإنّ الوارد في أوّل التفسير أنّ الإمام عليه السلام أمر الأبوين بإبقاء الولدين ليعلمهما التفسير فكيف تكون الرواية عنهما، عن أبويهما، عن الإمام عليه السلام؟! فإنّه يقال: إنّ هذا بعيد جداً عن مثل الصّدوق، وصاحب الوسائل وهما فارسا هذا الميدان، واحتمال التباس الأمر عليهما بحيث لا يميّزان بين الوالدين وولديهما موهون لا يلتفت إليه.
وخلاصة القول: أنّ طريق الرواية الواردة في الفقيه عن التفسير مشوش، واحتمال أنّ الصّدوق نقل عن تفسير آخر بعيداً أيضاً، ومثله في البعد احتمال تركيب التفسير من رواية الوالدين ومن روايات أخرى.
والحاصل: أنّ هذا التفسير الموجود لم يقم طريق على اعتباره، فدعوى الصحّة والاعتبار غير تامة[23].
[1]- مجمع الرجال: 6: 25.
[2]- رجال العلاّمة: 256ـ 257.
[3]- خاتمة مستدرك الوسائل: 5: 192.
-[4] معجم رجال الحديث: 13: 157.
[5]- خاتمة مستدرك الوسائل: 5: 190.
[6]- بحار الأنوار: 1: 284.
[7]- وسائل الشيعة: 20: 60.
[8]- معجم رجال الحديث: 13: 157.
-[9] رجال العلاّمة: 256ـ 257، وخاتمة مستدرك الوسائل: 5: 192.
[10]- مشيخة الفقيه: 104.
-[11] معاني الأخبار: 24.
[12]- التوحيد: 47.
-[13] بحار الأنوار: 1: 327 و 328.
-[14] من لا يحضره الفقيه: 2: 219، باب التلبية، الحديث 2586.
[15]- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 31.
-[16] معاني الأخبار: 4.
[17]- معاني الأخبار: 33.
[18]- معاني الأخبار: 24 ـ 25.
[19]- التوحيد: 431.
[20]- التوحيد: 404.
[21]- أمالي الصّدوق: 19 ـ 20، المجلس الثالث، الحديث 7.
[22]- أمالي الصّدوق: 148، المجلس الثالث والثلاثون، الحديث 2.
[23]- أصول علم الرجال ج1ص497-503