الإرادة في آية التطهير
الشيخ علي المزيرع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين سيّدنا ونبيّنا محمّدٍ وآله الطاهرين المعصومين المختارين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
من جملة المسائل التي تُناقَش في هذه الآية الكريمة مسألة الإرادة الواردة فيها، وهل هي إرادة تشريعيّة أو تكوينيّة، وهل يلزم على القول بالقسم الثّاني إشكال، وعلى القول به كيف يُدفع ذلك الإشكال؟
قبل كلّ شيء، علينا أن نبيّن ما هو الفرق بين الإرادتين، وبماذا تمتاز إحداهما عن الأخرى.
فنقول كما ذكر ذلك العلماء: إنّ المراد من الإرادة التشريعيّة هي أوامر الله تعالى ونواهيه، فنعلم -مثلاً- إنّ الله تعالى يريد منّا أداء الصّلاة والصّوم وسائر العبادات، أو يريد منّا عدم فعل مثل الكذب والغيبة وسائر المحرّمات، فهذه إرادة تشريعيّة، ومن المعلوم أنّ الإرادة بهذا المعنى تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال الله تعالى.
وبتعبير ثانٍ: إنّ إرادته سبحانه إذا تعلّقت بتشريع حكم، أو قانون لغرض عمل المكلّف به فالإرادة تشريعيّة.
أمّا الإرادة التكوينيّة: فالمقصود منها أنّ إرادته تعالى تتعلّق بإيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود، وهي تتعلّق بأفعاله سبحانه لا بأفعالنا. وهي بهذا المعنى لا تتخلّف عن المراد ولا يتخلّف عنها مرادُها وهما متلازمان ولا ينفكّان، وذلك كقوله تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)[1].
فمراده لازم التحقّق، ولا يمكن أن ينفكّ عن إرادته، أو يخالفها، أو يتخلّف عنها بحال من الأحوال.
إذا اتّضح الفرق بينهما، فهل إرادة الآية هي من القسم الأوّل، أو الثّاني؟
ما ذهب إليه علماؤنا_ وهو الحقّ_ من أنّ الإرادة الواردة في الآية المباركة هي من القسم الثّاني من أقسام الإرادة. وقد ذكروا لذلك جملة أمور، كلّ واحد منها كافٍ في إثبات ما يذهبون إليه[2]، منها:
1- إنّ الإرادة التّشريعيّة لا تختصّ بطائفة دون أخرى، بل هي تعمّ المكلّفين عامّة، وهذا خلاف ما نراه في الآية الكريمة.
2- إنّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود هو التّكوينيّة. فابتداء الآية بـ(إنّما) والّتي تفيد الحصر، وتعيين متعلّق إرادته تعالى بصورة الاختصاص، وبيان متعلّق إرادته سبحانه بالتّأكيد، وتأكيده بالإتيان بالمصدر بعد الفعل، وكون المصدر نكرة، ومجيء الآية بصيغة المدح والثّناء، كلّ ذلك كافٍ في إثبات أنّ الإرادة تكوينيّة وليست تشريعيّة.
وهذا ما أكّده في النفحات، حيث قال: الإرادة " في الآية الكريمة تكوينيّة، من قبيل الإرادة في قوله تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) لا تشريعيّة من قبيل الإرادة في قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)[3]؛ لأنّ التشريعية تتنافى مع نصّ الآية بالحصر، إذ لا خصوصية لأهل البيت في تشريع الأحكام لهم، وتتنافى مع الأحاديث؛ إذ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طبّق الآية عليهم دون غيرهم[4].
فالمتحصّل من جميع ما تقدّم أنّ الإرادة الواردة في الآية الكريمة هي إرادة تكوينيّة تضيف مزيد فضيلة وخصّيصة ومنقبة لآل العصمة والطّهارة، وتميّزهم عن غيرهم.
بقي أمر واحد وهو: إذا كانت هذه الإرادة -كما تقولون- تكوينيّة، فيلزم من ذلك على ذلك كون من نزلت فيهم مجبورين على الإتيان بالواجب، والانتهاء عن الحرام والمحرّم، وإذا كان كذلك فلا فضيلة لهم فيما يفعلون، أو يتركون، ولا يستحقّون المدح والثّناء، لأنّ موضعهما -المدح والثناء-من كان مختاراً في أفعاله، لا مجبراً عليها، فما تقولون؟
وفي مقام الجواب يُقال: إنّ مشكلة الجبر تنحلّ بالتّعرّف على كيفيّة تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد، والإمعان في هذا الموضوع يكفي لحلّ بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر والاختيار.
وبعبارة أخرى: هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم، أو تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم؟
فالجبر لازم القول الثّاني، والاختيار نتيجة القول الأوّل، وهو الحقّ وتوضيحه:
إنّ لازم التّوحيد في الفاعليّة والخالقيّة هو أنّ كلّ ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد، أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الإرادة التّكوينيّة لله سبحانه، ولا يقع شيء في الكون إلّا بإرادته وإذنه تعالى، قال تعالى:(ما قطعتم من لِّينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله)[5]، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد، حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الإرادة التّكوينيّة لله تعالى، وإلّا لزم أن يكون الإنسان أو الفواعل الأُخر مستقلّة في الفعل والتّأثير، وهو يستلزم الاستقلال في الذّات، وهو عين الشّرك ونفي التّوحيد في الأفعالّ.
ومع ذلك كلّه، فليس العباد في أفعالهم وتصرّفاتهم مجبورين وغير مختارين، لأنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت بأفعالهم لكنّها متعلّقة بها بتوسّط إرادتهم الخاصّة، وفي طول مشيئتهم، وبذلك صحّ أن يُقال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.
وعلى ذلك فالله وإن أراد طهارتهم عن الذنوب بالإرادة التكوينية، ولكن تلك الإرادة تعلّقت بها لمّا علم سبحانه أنّهم بما زُوِّدوا من إمكانات ذاتيّة ومواهب مكتسبة، نتيجة تربيتهم وفق مبادئ الإسلام، لا يريدون إلّا ما شرّع لهم سبحانه من أحكام. فهم لا يشاؤون إلّا ما يشاء الله سبحانه، وعند ذلك صحّ له سبحانه أن يُخبِر بأنّه أراد تكويناً إذهاب الرّجس عنهم، لأنّهم ما داموا لا يريدون لأنفسهم إلّا الجري على وفق الشّرع لا يُفاض عليهم إلّا هذا النّوع من الوصف[6].
وبعبارة أخرى: لمّا علم سبحانه أنّ هؤلاء لا يفعلون إلّا ما يؤمرون، وليست أفعالهم إلّا مطابقة للتّشريعات الإلهيّة، جاز له سبحانه وتعالى أن ينسب إلى نفسه إرادة إذهاب الرّجس عنهم[7].
هذا مضافاً إلى أنّ العصمة في حقيقتها ترجع إلى الدّرجة العليا من التّقوى، بمعنى أنّ التّقوى إذا بلغت قمّتها تعصم الإنسان عن اقتراف الذّنب وجميع القبائح.
أو أنّ العصمة هي نتيجة العلم القطعيّ بعواقب المعصية علماً يصدّ الإنسان عن اجتراح المعاصي، كالإنسان الواقف أمام الأسلاك الّتي يجري فيها التّيّار الكهربائيّ فإنّه لا يقدم بنفسه على إمساكها. أو هي (العصمة) استشعار عظمة الرّبّ وكماله وجلاله بحيث لا يستبدل هذا الإنسان برضا سبحانه شيئا.
فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريبة منها، فأين هي من مسالة الجبر وعدم الاختيار؟!
فالقدرة والتمكّن من فعل المعصية ثابت للمعصوم، والعصمة مانع شرعيّ، ولا منافاة بين عدم القدرة الشّرعيّة والقدرة الذاتيّة.
وفي تفسير الأمثل قال: وجملة (يريد) -في الآية المباركة- إشارة إلى إرادة الله التكوينية، وإلاّ فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.
ثمّ ردّ على الإشكال المتقدّم بقوله: من الممكن أن يقال: إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبراً، إلاّ أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابيه عن طريق أعمالهم، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا اُسوة للناس.
وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والاختيار في إتيانها، تماماً كما لا نرى عاقلاً يرفع جمرة من النار ويضعها في فمه، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع، والمبادئ الفطريّة والطبيعيّة، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه[8].
وقال أيضاً في الردّ على شبهة الجبر على القول بالتكوينيّة: والمسألة الاُخرى التي ينبغي الالتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة والإيجاد، تعني هنا «المقتضي» لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر وسلب الاختيار.
وتوضيح ذلك، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوى الله التي توجد عند الأنبياء والأئمّة بمعونة الله سبحانه، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين على ارتكاب المعصية، بل إنّهم قادرون على إتيانها، غير أنّهم يعفّون أنفسهم ويجلّونها عن التلوّث بها باختيارهم، ويغضّون الطرف عنها طوعاً، تماماً كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقاً مادّة سمّية جدّاً وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها، ومع أنّه قادر على تناولها، إلاّ أنّ علومه واطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الامتناع إرادياً واختياراً عن هذا العمل[9].