تاريخ حوزة النجف الاشرف
مقتطفات من حوزة النجف الاشرف
للسيد عبد الهادي الحكيم (بتصرف)
يؤمها الطلاب ويقصدها المتعلمون للتزود بالعلم والمعرفة والبحث والتحقيق بعد عام (448) هجرية زمن هجرة شيخ الطائفة وصاحب كرسي الكلام وانتقاله شبه القسري من بغداد الى النجف الاشرف إثر اقتحام داره وإحراق كتبه ابان فتنة طائفية بين المسلمين شيعة وسنة اشعلها واورى زنادها ببغداد حاكمها طغرل بك السلجوقي أول دخوله لبغداد.
وقد ادى التعصب الطائفي المقيت الى إحراق اعظم مكتبة إسلامية شيعية يومها هي مكتبة (دار العلم) حيث ضمت أكثر من عشرة الاف مجلد في مختلف العلوم والآداب والفنون حتى وصفها المؤرخ الجغرافي المعروف ياقوت الحموي بقوله: (لم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها) كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة و أصولهم المحررة. وهذه عادةٌ متبعة عند الحكام الجهلة، ولا ننسى اعظم مكتبة في التاريخ القديم وهي مكتبة الإسكندرية ومن دمرها.
إن هجرة الشيخ الطوسي القسرية من بيته العامر بكرخ بغداد الى مثوى الامام علي (عليه السلام) في النجف الاشرف وما تبعها من انتظام الدراسة على شكل حلقات للبحث والتدريس ومن إملاء شيخ الطائفة لدروسه جوار قبر امير المؤمنين (عليه السلام) وما نتج عن تلك الحلقات الدراسية من معارف جمة، بحيث أصبحت الحوزة العلمية الفتية في النجف يربو طلبتها على المئات من رواد الفضيلة والعلم والطلبة الناشئين.
الادوار التاريخية للحوزة:
مرت حوزة النجف الاشرف بادوار متعددة:
الدور الاول: دور تقدم البحث المعرفي.
تعاقبت على جامعة النجف الاشرف العلمية –أسوة بالجامعات والمعاهد العلمية العريقة الاخرى– فترات تقدم علمي وازدهار أعقبتها –لظروف خاصة– فترات تباطؤ معرفي وفتور علمي سرعان ما تلتها أدوار رقي وانبعاث بفعل فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في مدرسة النجف الاشرف العلمية.
ولعل ما قدمته آنذاك زعامة الشيخ علي بن عبد العالي الكركي المعروف بالمحقق الثاني للحوزة العلمية النجفية بخاصته وللحوزة العلمية بعامة من نهوض فكري واعد يعدّ بحق ملمحاً من ملامح تطور معرفي قادم وتباشير نهوض فكري منتظر.
ويعد كتابه (جامع المقاصد في شرح القواعد) وهو شرح استدلالي كبير لكتاب (القواعد) للعلامة الحلي من اهم ما ألف في تلك الفترة.
ثم ما قدمته من بعده زعامة الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالمقدس الاردبيلي المتوفي عام (993) هجرية صاحب كتاب (مجمع البرهان) للحوزة العلمية النجفية من أثر فاعل أهّل جامعة النجف العلمية لأن تحضى بأهمية علمية ملحوظة في عصره.
وغيرهما من الزعماء والمجتهدين الذين ألفوا الكتب العلمية وأغنوا حوزة النجف الاشرف ببحوثهم وارائهم الفقهية والاصولية.
كما أن ما خلفته تلك الحقبة الزمنية الغنية جداً بفنون القول من شعر ونثر، و ما ضمته بين دفتيها من دواوين و كتب كلاً لها دور كبير في صون اللغة العربية من حملات التتريك والحفاظ على عمود الشعر العربي بخصائصه الفنية وجماله الأخاذ ولغته المترفه وصوره المبدعة.
إضافة الى ماصنف في تلك الحقبة الزمنية من كتب ورسائل في مجالات اخرى عديدة كالحديث والتاريخ والتراجم والسير والفلسفة والحكمة والفلك والرياضيات ساهمت جميعها في تقدم البحث المعرفي في تلك الاونة.
الدور الثاني: دور نهج البحث المعرفي في حوزة النجف الاشرف.
لقد توسع مسار البحث المعرفي في علمي الفقه و أصوله في النجف الجامعة نتيجة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه فيها حتى وصلت جامعة النجف لما يمكن ان نسميه بدور نضج البحث المعرفي فيها وخصوصا على يد تلامذة الفقيه الشيخ محمد باقر البهبهاني المعروف بالوحيد البهبهاني المتوفي عام (1208) هجرية الذين منحوا علمي الفقه والأصول دفعة قوية من خلال تصديهم القوي للمد الأخباري في وقتهم، وتهذيبهم لهذين العِلمين الجلِيلين الفقه والاصول مما علق بهما من آراء ومبان غريبة قد يكون بعضها من الشواذ، وتتوجت تلك الجهود العلمية بتخريج علم الفقاهة الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر، والعلم المعظم الشيخ الانصاري (قدس سرهما).
الدور الثالث: دور نضج البحث المعرفي التفصيلي في بحوث حوزة النجف الاشرف.
دخلت النجف الجامعة مرحلة أكثر عمقاً وتفصيلاً وتخصيصاً ودقة في بحوثها الرصينة وبخاصة في علم أصول الفقه وذلك على أيدي المحققين الثلاثة الكبار وهم:
اولاً: المحقق الشيخ ميرزا حسين النائيني المتوفي عام (1355) هجرية وكان يشار اليه بالبنان لما كان يتسم به من القدرة الفائقة على النقد والتحقيق وسلاسة البيان وعمق النظر والمنهجية في البحث.
وقد أجاد كتابة تقريرات بحثه عديدون في مقدمتهم تلميذه الشيخ محمد علي الكاظمي في كتاب أسماه (فوائد الاصول) في اربعة أجزاء، وتلميذه السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي المرجع الأعلى لاحقاً في كتاب أسماه (أجود التقريرات) في جزأين.
ثانياً: المحقق الشيخ أغا ضياء العراقي المتوفى عام (1361) هجرية درس السطوح وخارج الفقه والاصول ستين سنة منها أكثر من ثلاثين سنة في تدريس البحث الخارج.
وقد أحسن عرض آرائه بعض تلامذته يأتي في مقدمتهم الشيخ محمد تقي البروجردي في كتابه الذي اسماه (نهاية الافكار) وقد تطرق فيه الى آراء أستاذه مستوعبا البحث في القطع والحجج والأصول العلمية، وكذا الشيخ هاشم الآملي في كتابه (بدائع الأفكار) مستوعباً البحث في مباحث الأصول اللفظية والملازمات العقلية.
ثالثاً: المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني المتوفى عام (1361) هجرية واضع المنهجية الشاملة لمباحث علوم الأصول، وهي المنهجية التي أعتمدها وتبناها تلميذه الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (أصول الفقه).
ويضاف الى هؤلاء العلماء الكبار العديد من العلماء ومراجع الدين العظام منهم:
1- السيد محمد كاظم اليزدي المتوفى عام (1337) هجرية الفقيه و المرجع الاعلى في عصره و المفتي بالجهاد ضد الايطاليين والبريطانيين والروس بعد احتلالهم لبلاد المسلمين وصاحب كتاب (العروة الوثقى) المعروف في اوساط الحوزات العلمية بجمال عبارته وحسن سبكه واستيعابه للمسائل بما فيها المستحدثة منها في عصره وقد تناولته أيدي الفقهاء والعلماء بالشرح والتبيين والاستدلال والتحشيه.
2- السيد أبو الحسن الأصفهاني المتوفى عام (1365) هجرية المرجع الاعلى في عصره و المعروف بدقة التحليل والمجاهدة والتحمل والزهد والصبر وصاحب المواقف الصلبة التي ضاق بها حكام العراق ذرعاً فامروا بنفيه الى خارج العراق فأصدر بيانه المهم الذي ورد فيه ما نصه: (من الواجبات الدينية على جميع المسلمين هي الدفاع عن الاسلام والبلاد الاسلامية وبالخصوص العراق بلد المقدسات وبلد الأئمة الاطهار (عليهم السلام) ضد تسلّط قوّات الأجانب).
3- السيد محسن الحكيم المتوفى عام (1390) هجرية المرجع الاعلى في عصره ومؤلف كتاب (المستمسك في شرح العروة الوثقى) في (14) جزء والزاخر بمجلداته بآخر ما توصلت اليه حوزة النجف الاشرف العلمية حتى عهده من آراء و نظريات في علوم الفقه وأصوله وكل ما يمت الى علوم الشريعة بصلة مما حدا ببعض الكتاب لأن يصف المستمسك بأنه: (الموسوعة الفقهية القيمة التي لم يسمع بمثلها في هذا الدور من حيث الترتيب والتنظيم والتحقيق والدقة وقوة الاستدلال والتلخيص. هو اول كتاب فقهي ظهر للملأ العلمي بهذا الشكل الكامل في جميع الأبعاد ولم يسبقه أحد من فقهائنا الافذاذ في هذا الدور وأحرز مؤلفه (قدس سره) بهذا التأليف مقام القيادة الكبرى لركب المحققين حيث أنه يرجع كل تحقيق في شرح العروة الوثقى من بعد صدور هذا الكتاب(المستمسك) الى ما حققه المؤلف فيه. وكل ما جاء بعده من شروح العروة الوثقى فقد وجد طريقاً معبدا فسار عليه بسهولة).
4- السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي المتوفى عام 1413 هجرية المرجع الاعلى في عصره وواضع منهجية تألفت من خصائص متعددة قسم من خلالها المباحث الاصولية أسوة بأستاذه الشيخ النائيني الى أقسام اربعة:
أولها: ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني.
ثانيها: ما يثبت الحكم الشرعي بعلم جعلي تعبدي وهو يتضمن مباحث الالفاظ وحجية الظواهر.
ثالثها: ما يعيّن الوظيفة العلمية الشرعية.
رابعها: ما يعين الوظيفة العلمية بحسب حكم العقل.
كما ألف سماحته (قدس سره) كتاب (معجم رجال الحديث) في أربعة وعشرين مجلداً وهو المصنف المهم في استيعابه وحسن تبويبه بما وضع من أسس علمية رصينة في علم الحديث والدراية من جهة وفن علم الرجال وسنن الجرح والتعديل من جهة اخرى وما اضافه من نظام القبول والرفض للروايات وما بينه من توثيق الرواة أو ردّهم وما سجله من عدد الروايات وأماكنها من الكتب ومطانّها في الموسوعات الحديثة.
ثم اعقب هؤلاء المراجع العظام زعماء لحوزة النجف الاشرف ومراجع دين المتصدين للبحث والتحصيل الحاضرين في عقول وقلوب المؤمنين يحملون همومهم ويدافعون عن حقوقهم والحريصون على ان ينتشر المذهب الحق في ارجاء العالم حفظهم الله تعالى وسدد خطاهم.