أهل البيت (عليهم السلام) في نظر الشيعة
يأتينا الكتاب الكريم ناطقاً مبيناً بقوله جلَّ شأنه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُم الرِّجْسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[1]، في أنه لَفَضيلَة لهم (عليهم السلام)، لا يدانيهم فيها أحد من الناس كافة.
وَلا كَرامَةَ أَنْفَسَ مِن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم (عليهم السلام) من العيوب كافة، فذاك التطهير الذي يريده اللطيف تعالى لهم (عليهم السلام) بعنايته غير مقيَّد برجسٍ خاصٍّ ولا من شيء مُعيَّن، فيدل على عموم تطهير (عليهم السلام) من كل ذنب وعيب.
ويستفاد من هذه الآية الشريفة عصمة أهل البيت (عليهم السلام) لأنَّ كلَّ ذنب رجس، وارتكاب الذنوب لا يجتمع مع إذهابها عنهم وطهارتهم منها، فهم إذن بحكم هذه الآية مطهَّرون من الأرجاس والذنوب.
وهل العصمة شيء وراء هذا؟ نعم، وإنما الشأن كلُّه في المعنيِّ بهذه الفضيلة التي امتازوا بها على جميع الأمَّة، فهل هُم (عليهم السلام) الذين كانوا في البيت حين نزلت هذه الآية الكريمة؟ أم كلُّ مَن يَمُتُّ إلى الرسول الأطهر (صلى الله عليه وآله) بسبب أو نسب؟
فإن قيل بالقول بالثاني فالواقع شاهد على خلافه، لأنَّا نجد في نسائه من خالفته وتظاهرت عليه، ولا رجس أعظم من ذاك، فلابدَّ من أن يكون نساؤه غير معنيَّات بها، واستثناء بعض النساء دون بعض تَحَكُّم.
هذا فيمن يَمُتُّ إليه (صلى الله عليه وآله) بالسبب، ونجد البعض ممَّن يمتُّ إليه بالنسب يداني الموبقة، ويقارب الجريمة، ولا يصحُّ أن يريد القدير سبحانه شيئاً بالإرادة التكوينية ثم لا يقع.
فلما كان مستحيلاً أن يريد تكوين شيء فلا يكون عرفاً أن النساء وعامَّة الهاشميِّين غير مقصودين من الآية، لإتيانهنَّ وإتيانهم ما ينافي التطهير، على أنه لم يقل أحد بعصمة نسائه والهاشميِّين عامَّة.
ولو كان المقصود بها الإرادة التشريعيَّة فلا وجه لإرادة التطهير من أهل البيت (عليهم السلام) خاصَّة، لأنه تعالى يريده من الناس كافة، فاختصاصه بهم (عليهم السلام) على وجه الميزة والفضيلة يدلُّنا على تكوينه فيهم.
ثم إن الإرادة التشريعية إنما تتعلَّق بفعل الغير، ومتعلَّقها في الآية فعل الله تعالى نفسه، ولو كانت الإرادة تشريعية لقال: لتذهبوا وتطهروا أنفسكم، فلا شكَّ في أن المَعنِيَّ من الآية هو المعنى الأول، أي أن المقصود منها أُنَاس مخصوصون، وهم الذين كانوا في بيت سيد الرسُل (صلى الله عليه وآله)، وقد جلَّلَهم بكسائه والتحف معهم به، فنزلت هذه الآية عليهم وفيهم (عليهم السلام).
وهم عليٌّ وفاطمةُ وابناهما الحسن والحسين (عليهم السلام)، وأكدت على ذلك صحاح الأحاديث من طرق الفريقين، ولو لم يكن هناك نقل يدلُّ بصراحته على اختصاص هذه الصفوة الكريمة بهذه الآية الشريفة لَكَانت آثارهم (عليهم السلام) أكبر برهان على هذا الاختصاص، فإن أفعالهم وأقوالهم (عليهم السلام) ترغمنا على الاعتراف بتلك النزاهة لهم.
وما خفيت هذه الحقيقة الناصعة على أهل البصائر من بدء نزول هذه الآية المحكمة حتى اليوم، فكان أهل البيت (عليهم السلام) عندهم أهل الكساء خاصَّة، الذين حُبُوا بمكارم لا يأتي عليها الحصر، وكان منها الطهارة من العيوب، وذهاب الأرجاس والذنوب، نعم ربما استغلَّ بعض الهاشميِّين ومنهم العباسيون ظاهر عموم كلمة: (أَهْلَ البَيْتِ)، لتحقيق مآربهم والوصول إلى العرو.
فكان الهاشميون عامة يدلون على الناس بهذه الآية، كما كان اسم التشيع أيضاً قد يُستغل، فيراد به ولاء عليٍّ وأهل البيت (عليهم السلام) بالمعنى العام، لا خصوص أصحاب الكساء والأئمة من أولاد الحسين (عليهم السلام)، إلا عند الذين لا تجرفهم سيول الرعاع، ولا يعدل بهم عن الحقِّ الصخب أو الضغط.
وما عرفت الناس التشيع بولاء هؤلاء الأئمة خاصة إلا بعد أن خَيَّم السكون على الناس بعد الثلث الأول من الدولة العباسية عندما هدأ العلويون، وتقلَّصت ثوراتهم، فتمخَّض القول وقتذاك بأهل البيت لهؤلاء السادة الأئمة.
وشَاهِدُنَا على ذلك أن بني العباس ما دَبُّوا دَبِيب النمل على الصفا لارتقاء عروش المُلك وتحطيم دعائم الدولة المروانية إلا بذلك الإسم، بزعم أنهم أهل البيت الأقربون إلى صاحب الرسالة، ليعطفوا بذلك عليهم قلوب الشيعة، ويتخذوا منهم فعلة لبناء الكيان لسلطانهم، وهدم بناء الدولة الأموية التي قاومت أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم طيلة أيامها، وصبغت وجه الأرض من دمائهم المسفوحة.
وما كان ليتمَّ لِبَنِي العباس ما أملوه لولا ادعاؤهم ذلك، ولو لم يكن الذين نهضوا بهم واتخذوا منهم جسراً عبروا عليه إلى مآربهم شيعة لأهل البيت (عليهم السلام)، من دون تفريق بين العباسي والطالبي، ولا بين العلوي والجعفري والعقيلي، ولا بين الحسني والحسيني.
وهكذا كانت الدعوة والنهضة من كل هاشمي كنهضة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بـ (الكوفة)، ثم بـ (فارس)، وفيهما أولياء لأهل البيت (عليهم السلام)، وقد قضى عليه أبو مسلم بعد تَفَرُّقِ الناس عنه والتجائه إليه.
وما كان من زيد وابنه يحيى من النهضة، ولا من الأخوين محمد وإبراهيم من الدعوة، إلا لأنهم من أهل البيت (عليهم السلام)، وأن غاياتهم من الدعوة أخذ التراث من أعداء أهل البيت (عليهم السلام).
ولكن قد وضح للناس بعد ذلك أن بني العباس ليسوا من أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك حين سَلَّوا سيفَ البغي على أهل البيت (عليهم السلام) قربى الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعرف الناس أن الدعوة من بني العباس لقلب دولة أُميَّة باسم الثأر لقتلى الطف، وصليب الكناسة، والجوزجان، وغيرهم كانت سبيلاً للوصول إلى أُمنيتهم المقصودة.
لأنه بعد أن بنوا من جماجم أولئك الأغرار من مُحِبِّي أهل البيت (عليهم السلام) قواعد سلطانهم ظهرت كَوَامِنُ صدورهم، وما قصدوه من الوليجة إلى غاياتهم، حتى أن محمداً وإبراهيم اختَفَيَا عند قبض السفاح عن أَعِنَّةِ الحكم، وما اختفيا إلا لما يعلمانه من سوء نواياه مع الأدنِينَ من الرسول (صلى الله عليه وآله)، والشواهد على ذلك من ضغطهم على أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم (رضوان الله عليهم) أكثر من أن تحصر.