مشايخ الإجازات
قد اشتهر أنّ مشايخ الاجازات لا يحتاجون إلى التوثيق، وذهب إلى القول به جماعة، منهم: الشهيد الثاني، وابنه، والوحيد البهباني[1]، والسيّد الداماد[2]، والمحقّق البحراني[3]، وغيرهم، واستدلّ لهذه الدعوى بأمور:
الأوّل: ما ذكره الشهيد في داريته: بأنّ عدالة الراوي تعرف بتنصيص عدلين عليها، أو بالاستفاضة بأنّ تشتهر عدالته بين أهل النقل، أو غيرهم من أهل العلم، كمشايخنا السابقين من عهد الشيخ الكليني رحمه الله، وما بعده إلى زماننا، لا يحتاج أحد من هؤلاء إلى تنصيص على تزكية ولا بيّنه على عدالته، لما اشتهر في كلّ عصر من ثقتهم، وضبطهم، وورعهم، زيادة على العدالة[4]. وقريب من هذا ما ذكره ابنه صاحب المعالم في فوائد المنتقى[5].
الثاني: إنّ من المتسالم كما تقدّم عليه في البحث حول الكتب، عدم التعرّض إلاّ لأصحاب الكتب، ومن يروون عنهم، وأمّا من يقع في الاسناد قبلهم، فلا يناقشون فيهم، لاستغنائهم عن التوثيق، وهذه كانت سيرة الشيخ ومن تقدّم عليه، كما أنّ العلاّمة لا يناقش في المشايخ، بل في نفس الإسناد، وما ذلك إلاّ لأنّهم مشايخ الإجازة، ووثاقتهم محرزة.
الثالث: ما يظهر من كلمات النجاشي، والشيخ، وغيرهما من الرجاليين أنّهم كانوا يتحرّزون في الرواية عن الضعيف، وقد تقدّم أنّ النجاشي كان دأبه وطريقته عدم الرواية عمّن يغمز أو يتّهم بشيء، كما أنّ هذه هي طريقة غيره من المشايخ.
وقد مرّ علينا انّ المشايخ لم يمكّنوا ابن الغضائري من الدخول على أبي طالب الأنباري، لاتّهامه بالغلوّ والارتفاع، وهذا دليل على انّهم لا يروون عن الضعفاء.
وأمّا ما يقال: لماذا أغفل الرجاليّون ذكر مشايخ الإجازة، ولم ينصّوا على وثاقتهم؟ فقد أجاب عنه صاحب المعالم بأنّ الرجالييّن لم يكونوا في صدد ذكر كلّ أحد، بل كانوا في مقام ذكر المصنّفين، فلعلّ إغفال ذكر المشايخ بسبب أنّهم لم يكونوا من جملة المصنّفين، وليس لهم كتب ليذكروا بها، لا أنّه لعدم الاعتناء بهم[6]. هذا غاية ما يمكن الاستدلال به على هذه الدعوى.
وقد ناقش السيّد الأُستاذ قدس سره في ذلك بمناقشات ثلاث:
الأُولى: وهي حليّة، وحاصلها: أنّ مشايخ الإجازة بماذا يمتازون عن غيرهم من سائر الرواة، وهل هم إلاّ كغيرهم من الرواة؟ وقد ذكرنا فيما سبق أقسام تحمل الرواية ومنها الاجازة، وفائدتها تصحيح الأسناد إلى المجيز، والحكاية عنه، ومعاملته معاملة الراوي، وعليه فلا يكون للمجيز امتياز على نفس الراوي، وإذا كانت الرواية عن شخص لا تعتبر توثيقاً فكذلك الاجازة، فمشيخة الإجازة لا تستلزم التوثيق.
الثانية: وهي نقضيّة، وحاصلها: أنّ النجاشي قد ضعّف بعض مشايخ الإجازة، كالحسن بن محمّد بن يحيى[7]، والحسين بن حمدان الخصيبي (الحضيني)[8]، وهما مّمن أجازا التلعكبري.
الثالثة: وهي نقضيّة أيضاً، وحاصلها: أنّ مشايخ الإجازة لم يكونوا أجلّ قدراً، وأرفع مقاماً من أصحاب الإجماع، والحال أنّهم ذكروا بالتوثيق، مع انّهم أشهر من مشايخ الإجازة، فكيف يذكر هؤلاء ولا يذكر أولئك؟
والحاصل: أنّ هذه الدعوى لا يمكن الاعتماد عليها[9]. هذا ما أفاده السيّد الأُستاذ قدس سره ونحن وإن كنّا نوافقه فيما أفاد، إلاّ أنّ لنا تفصيلاً في المقام:
فنقول: أمّا كلام الشهيد وابنه: فالإشكال في الشهرة ومناطها، فإن كانت هي الشهرة عند المتأخرين فلا اعتداد بها لانّها حدسيّة لا حسيّة، وإن كانت هي الشهرة عند المتقدّمين فما الدليل عليها؟ ومع الشك لا يمكن الاعتماد عليها. نعم إذا أحرزنا أنّ وثاقتهم كانت عن حسّ لا عن حدس، فيمكن القبول، ولكن أنّى لنا ذلك؟
وأمّا الدليلان الثاني والثالث: فهما ضعيفان، فإنّ عدم تعرّض الشيخ ومن تقدّم عليه لمن هو واقع قبل صاحب الكتاب، لعلّه لكون الكتاب معروفاً مشهوراً، أو لعلّه لوجود طريق آخر للكتاب، أو طرق متعدّدة، فعدم مناقشة الشيخ في أوائل السند لا دلالة فيها على وثاقة رجاله، وقد تقدّم منّا تفصيل ذلك في البحوث السابقة، وهكذا الأمر بالنسبة إلى النجاشي، فقد علمنا بوثاقة مشايخه من أدلّة أُخرى، وأمّا بالنسبة إلى غيره فلا يمكن الجزم بذلك، وعدم تمكين المشايخ ابن الغضائري من الدخول على الأنباري، لا يدلّ على انّه لم يتّصل بغيره ممّن حاله حال الأنباري.
فما ذكر من الأدلّة الثلاثة قاصرة عن إثبات المدّعي.
ثمّ إنّ الأولى أن يبدّل الجواب النقضي الأوّل الّذي ذكرناه عن السيّد الأُستاذ قدس سره إلى القول بأنّ النجاشي قد يتعرض لكثير من مشايخ الاجازة، ويصف بعضهم بالوثاقة، ويسكت عن البعض الآخر، فما هو الفرق في ذلك؟
ووجه: أنّ الشخصين الّذين ضعّفهما النجاشي متقدّمان زماناً على الكليني، ودعوى الشهرة في مشايخ الإجازة بالنسبة إلى ما بعد الكليني لا قبله، وكلام الشهيد، وابنه، ناظر إلى ما بعد الكليني.
والخلاصة: أنّه لا يمكننا التسليم بهذه الدعوى في حقّ مشايخ الإجازة.
نعم، يمكن القول إنّ أكثر مشايخ الاجازة ممّن هو متأخر زماناً عن الشيخ محكوم بالوثاقة، لكن لا لوصف المشيخة، فإنّها لا توجب التوثيق وإنّما تثبت بدليل آخر.[10]
[1]- فوائد الوحيد البهباني المطبوعة في خاتمة كتاب رجال الخاقاني الفائدة الثالثة: 45، الطبعة الثانية.
-[2] الرواشح السماوية: 104 الراشحة الثالثة والثلاثون.
[3]- فوائد الوحيد البهبهاني المطبوعة في خاتمة كتاب الخاقاني الفائدة الثالثة: 45، الطبعة الثانية.
[4]- الرعاية في علم الدراية: 192، الطبعة الأولى المحقّقة.
[5]- منتقى الجمان: 1: 39، الفائدة التاسعة، الطبعة الأولى ـ جامعة المدرسين ـ
[6]- منتقى الجمان: 1: 39، الفائدة التاسعة، الطبعة الأولى ـ جامعة المدرسين ـ
-[7] رجال النجاشي: 1: 182، الطبعة الأولى المحقّقة.
-[8] ن . ص: 189.
[9]- معجم رجال الحديث: 1: 72، الطبعة الخامسة.
[10]- أصول علم الرجال ج 2 ص 289 – 295.