الترحّم والترضّي
ذكر بعضهم انّ الترحّم والترضّي من المشايخ الأجلاّء على شخص كاشف عن حسنه ووثاقته. وقد استشكل السيّد الأُستاذ قدس سره على هذه الدعوى بأُمور:
- أنّ الترحّم ـ وهو طلب الرّحمة من اللّه تعالى ـ دعاء، وهو أمر مرغوب فيه ومندوب إليه كالدعاء للوالدين بخصوصهما ولجميع المؤمنين، وليس هذا مختصّاً بشخص دون آخر، فلا ملازمة بينه وبين الوثاقة أو الحسن.
- أنّ الإمام الصّادق عليه السلام قد ترحّم على كلّ من زار الإمام الحسين عليه السلام، ووردت روايات كثيرة بأسانيد متعدّدة في أنّه عليه السلام طلب المغفرة لزوّار جدّه الحسين عليه السلام.
- أنّ الإمام الصّادق عليه السلام ترحّم على بعض الأشخاص عرفوا بالفسق كالسيّد إسماعيل الحميري وغيره فترحّمه لا يكون كاشفا فكيف بترحّم الأعلام كالشيخ والصّدوق قدس سره.
- أنّ النجاشي ترحّم على بعض معاصريه من المشايخ، وهو محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبيد اللّه البهلول، بعدما انّه رأى شيوخه يضعّفونه، وانّه لأجل ذلك لم يرو عنه[1]، وقد مرّ البحث في ذلك.
وعلى هذا فلا يمكن الأخذ بهذه الدعوى. ولكن يمكن القول إنّ المسألة فيها بحث، وخلاصته أنّ الدعاء وطلب المغفرة لشخص ما يختلف بحسب الحالات والمقامات، فتارة يدعى لشخص بالغفران، وتارة بالرّحمة، وثالثة بالرضوان، وهذه الأنحاء الثلاثة من الدعوات مختلفة في نظر العرف، بل في الواقع ايضاً، وادناها مرتبة هو طلب الغفران، والأرفع منها طلب الرّحمة، وإن كان طلب الرّحمة بمعناه اللغوي هو طلب الستر والغفران أنّه في نظر العرف أعلى مرتبة من طلب الغفران. ثمّ الأعلى من هاتين المرتبتين طلب الرضوان، فإنّه لا يقال في حقّ شخص: (رضي اللّه عنه) في مقام التعظيم والإكبار.
وقد فسّر قوله تعالى: «لقد رضي اللّه عن المؤمنين»[2] بأنّ الرضوان هنا بمعنى إعطائهم الثواب، ولا يلازم ذلك الذنب، وعليه فالترضّي أعلى درجة من المرتبتين السابقتين، وهناك مرتبة أعلى من الجميع وهي قولهم: (كرّم اللّه وجهه) ويعبّر بها في مقام التنزيه، وقد دأب بعض العامّة على التعبير بهذا عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعلّل ذلك بنزاهته عن السجود للأصنام، وليس الكلام في هذه المرتبة، بل في المراتب الثلاث الأولى ودلالتها.
والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ الدعاء بطلب المغفرة لا دلالة فيه على التوثيق، ولم يقل به أحد، ومحل الكلام هو الترحّم والترضّي.
فأمّا الترحّم: فالظاهر أنّه مورد اهتمام العرف، فلا يترحّم على كلّ أحد وإن كان لا يفرق فيه بسحب اللغة، فكلّ شخص يمكن أن يدعى له بالرّحمة.
وأمّا الترضّي: فهو في اللغة بمعنى الرّضا أي قبله اللّه وأراد ثوابه، وهو لا يطلق على كلّ أحد، فلا يقال لمن يتجاهر بالفسق مثلاً: (رضي اللّه عنه) وإنّما يقال كان في رتبة عالية من الجلالة والقداسة، كسلمان، وأبي ذرّ، والمقداد، وعمّار وأمثالهم، وعلى هذا تختلف العبائر باختلاف الحالات والمقامات.
فالمرتبة الأولى، وهي: طلب الغفران، يفرض فيها العصيان والخطأ فيطلب الستر والتجاوز عن خطأه.
والمرتبة الثانية، وهي: طلب الرّحمة كالأولى مع زيادة التعطّف والرقّة.
والمرتبة الثالثة، وهي: طلب الرّضا، فالنظر فيها إلى الأعمال الصالحة فقط فيطلب الثواب والأجر عليها، فكأنّما لا يرى له خطأ أو عصيان، ونظيره ما يقال عند ذكر الأجلاّء في عصرنا: «قدّس اللّه سرّه» أو «أعلى اللّه مقامه»، ولا إشكال في دلالته على الجلالة والعظمة فوق الوثاقة.
وأمّا المرتبة الرابعة فمقام أعلى وهو التنزيه عن المعصية.
وقد يعبر عن حالة بلفظ أُخرى عناية ومجازاً.
وبناء على هذا فيمكن التفصيل بين هذه العبائر، فإذا صدر الترضّي من الإمام عليه السلام فلا شكّ في دلالته على التوثيق، وكذلك الحال في صدوره من الأعلام العارفين بمداليل الالفاظ في حقّ معاصريهم، والظاهر أنّه يعدّ توثيقاً، ولا سيما مع الاكثار منه، فنفس الترضّي علامة على التوثيق، والإكثار منه تأكيد له.
وعلى فرض عدم دلالته على التوثيق صراحة، فلا أقل هو كاشف عن الحسن، فأمّا ما ذكره السيّد الأُستاذ قدس سره من المناقشات فالايراد في طلب المغفرة في محلّه، وأمّا في طلب الرّحمة فهو وارد بحسب اللغة لا بحسب العرف، وأمّا الترضّي فلا إشكال عليه، لا لغة ولا عرفاً وكلامه قدس سره لا يشمله.
وبقيّة ما أورده السيّد الأُستاذ قدس سره أخصّ من المدعى فإنّ كلامه في طلب المغفرة والرّحمة، وكلامنا في الترضّي، وقلنا: إنّه كاشف عن الحسن، إن لم نقل الوثاقة، وترحّم الإمام الصّادق عليه السلام على زوّار الحسين عليه السلام مورد خاص بزوّاره عليه السلام.
وقد ورد في الكافي وكامل الزيارات بأسانيد متعدّدة، منها ما عن معاوية بن عمّار أنّه عليه السلام قال: «اللّهم اغفر لي ولاخواني زوّار قبر الحسين...»[3] الخ، وهذا خارج عمّا نحن فيه.
وامّا ما ذكره من ترحّم الإمام الصّادق عليه السلام على السيّد الحميري فقد كفانا مؤنة الحديث عنه، ما كتب من الدارسات الخاصة حول هذه الشخصية الفذة ومنها ما كتبه العلاّمة السيّد محمّد تقي الحكيم في كتابه القيم شاعر العقيدة، ومنها ما حقّقه المرحوم العلاّمة الأميني حول السيّد الحميري في كتابه الخالد الغدير، وإذا كان ثمت ما يقال عنه في بدايات حياته، إلاّ أنّه مات وهو نقي الأثواب[4].
وأمّا ما ذكره بالنسبة إلى ترحّم النجاشي على أحد المشايخ المعاصرين له مع تضعيفه إيّاه، فهو وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّ الكلام في الترضّي لا في الترحّم، ولم يرد في كلام النجاشي أو غيره أنّه ضعّف شخصاً ثمّ ترضّي عنه، مضافاً إلى انّه قرن الترحّم بطلب المسامحة له حيث قال: رحمه اللّه وسامحه، ثمّ انّ الشخص المعني هو أحمد بن محمّد بن عبد اللّه بن الحسين بن عبّاس (عيّاش) الجوهري[5]، وليس هو محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبيد اللّه بن البهلول، فوقع السهو من قلمه الشريف[6].
[1]- معجم رجال الحديث: 1: 74، الطبعة الخامسة.
[2]- سورة الفتح: آية 18.
[3]- كامل الزيارات: 116، الباب 40، الحديث 2، طبع النجف الاشرف.
[4]- سلسلة حديث الشهر ـ الحلقة الحادية عشر شاعر العقيدة: 141، الطبعة الأولى 1369 هـ، والغدير في الكتاب والسنة والأدب: 2: 290 ـ 213، الطبعة الثالثة. وقد لقب الإمام أبي الحسن علي بن موسى بالرّضا: (لأنّه كان رضى اللّه في سمائه، ورضى رسول اللّه في أرضه، ورضى الأئمة من قبله ومن بعده، ورضى المخالفون من أعدائه، ورضى الموافقون من أوليائه ولم يكن يجمع ذلك لأحد من آبائه).
[5]- رجال النجاشي: 1: 225، الطبعة الأولى المحقّقة.
[6]- أصول علم الرجال ج 2 ص 313 – 319