تنوع أدوار غيبة المنتظر
الشيخ ستار عويد الدلفي
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخير خلق الله أجمعين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد...
لا يفتأ أهل الضلال والعناد والجهالة يثيرون الشكوك والشبهات حول عقائد الشيعة الامامية وكان للعقيدة المهدوية الحظ الاوفر من هذه الشكوك والشبهات فتراهم كثيراً ما ينعقون بأباطيلهم ويطبلون في مساجدهم ومراكزهم وقنواتهم الفضائية بالتهم والاكاذيب والسخرية والاستهزاء بمن يؤمن بغيبة الامام الثاني عشر من ائمة اهل البيت (عليهم السلام اجمعين) حتى صار الايمان بغيبته او بقضيته رأساً كأنما هو خرافة من خرافات المجانين او حكاية من حكايات العجائز والصبيان.
ومن بين تلك الشبهات الترويج لمسألة عدم الجدوى والانتفاع من إمام غائب لا يرى له منظر ولا يسمع له صوت، ومن هنا نريد ان نتعرض في هذا البحث المتواضع لأهم الادوار التي يمكن أن تؤديها غيبة الامام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) وعلى مستويات عدة، منها التربوية والابتلائية التمحيصية وعلى الصعيدين الفردي والاجتماعي مستعرضا بذلك الادوار الممكن ان تؤديها الغيبة ومن أدلة نقلية وأخرى عقلية.
المطلب الاول: الغيبة لغةً وإصطلاحاً
مفهوم الغيبة:
الغيب: كل ما غاب عنك تقول: غاب عنه غيبةً وغيباً وغيوباً ومغيباً وجمع الغائب غيب وغياب وغيب ايضاً، وغيبته انا. وغيابة الجب: قعره. وكذلك غيابة الوادي تقول وقعنا في غيبه وغيابه، أي هبط في الارض وقولهم غيبه غيابه أي دفن في قبره ابن السكيت بنو فلان يشهدون أحياناً ويتغايبون احيانا وغابت الشمس أي غربت والمغايبة: خلاف المخاطبة واغابت المرأة: اذا غاب عنها زوجها فهي مغيبة بالهاء وتشهد بلا هاء. والغيب، ما اطمأن من الارض قال لبيد. عن ظهر غيب والانيس سقامها[1].
أما اصطلاحاً فهي غيبة الامام الثاني عشر المهدي المنتظر والتي ابتدأت بمنتصف شعبان(328هـ) وفيها إنقطعت الاتصالات والسفارة بين الامام وشيعته[2] وإذا ما سألت عن سبب اختفائه فهو لا علة تمنع من ظهور المهدي إلا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار.
هذا بالنسبة للغيبة المصطلح عليها بالغيبة الكبرى, حيث تمتاز عن الغيبة الصغرى بكونها لا يتصل فيها الإمام سلام الله عليه بقواعده الشعبية، لا مباشرةً ولا من خلال سفراء، كما حصل في الغيبة الصغرى التي زادت على السبعين عاماً، حيث كان يتصل بالناس من خلال سفرائه الاربعة بالتعاقب، وما إن مات السفير الرابع حتى بدأت الغيبة الكبرى ولازالت قائمة الى ما شاء اللطيف الخبير.
أهم أدوار غيبة الامام المنتظر
تتنوع الأدوار التي تأديها غيبة الإمام صلوات الله وسلامه عليه, ويمكن لنا أن نتصيد بعضا من تلك الادوار من الادلة النقلية والعقلية معا، وإن إختلفت تلك الادوار من حيث القوة والضعف, وسأسلط الضوء على أهم تلك الادوار في مطلبين تاركاً للقارئ الكريم ترجيح ما يراه راجحاً.
المطلب الثاني: أهم أدوار الغيبة نقلاً
لقد ذكرت الروايات الشريفة جملة من الادوار التي تؤديها الغيبة، ومن تلك الأدوار:
أولاً: الخوف على نفسه من القتل:
من العلل التي ذُكرت في الروايات كسبب من أسباب غيبته (عجل الله فرجه الشريف) وعدم ظهوره هو خوفه على نفسه من القتل، إذ كان حكام الجور وما زالوا مستعدين لتصفية كل من يقف بطريقهم جسدياً ولا يتوانون في قتله طرفة عين أبداً، لذلك شاء الله تعالى أن يغيب عن الانظار ويستتر عن الابصار الى أن يأتي فرج الله الواحد القهار، كما جرى مع غيبات الانبياء موسى وعيسى وغيرهم (عليهم السلام) فقد غابوا مدة معينة حفاظاً على أنفسهم من سلاطين زمانهم وهنالك جملة من الروايات الشريفة التي تدل على هذا المعنى, منها:
- روي عن زرارة قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) "يا زرارة لا بد للقائم من غيبة؟ قلت: ولم؟ قال: يخاف على نفسه وأومأ بيد الى بطنه"[3].
- وروي عن زرارة أيضاً قال: سمعت أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) قال "للقائم غيبة قبل قيامه، قلت: ولم؟ قال: يخاف على نفسه الذبح"[4].
يبقى من الممكن أن يرد هنا تساؤلان وهما:
التساؤل الأول: مضمونه ألا يمكن أن يكون الإمام ظاهراً ويمنع الله من قتله ويحول بينه وبين من يريد قتله؟[5].
وقد أجاب الشيخ الطوسي (رضي الله عنه) عن هذا التساؤل بما مضمونه "المنع الذي ينافي التكاليف هو النهي عن خلافه والامر بوجوب إتباعه والتزام الانقياد له, وكل ذلك فعله تعالى، وأما الحيلولة بينهم وبينه فإنه ينافي التكليف، وينقض الغرض، لأن الغرض من التكليف استحقاق الثواب، والحيلولة ينافي ذلك، وربما كان في الحيلولة والمنع من قتله بالقهر مفسدة للخلق، فلا يحسن من الله فعلها.
التساؤل الثاني[6]: قال السيد الشريف المرتضى (رضي الله عنه) سئل الشيخ المفيد (رضي الله عنه) فقيل له: أليس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ظهر قبل أستتاره ودعا الى نفسه قبل هجرته, وكانت ولادته معروفة ونسبه مشهوراً وداره معلومة هذا مع الخبر عنه في الكتب الاولى والبشارة به في صحف ابراهيم وموسى (عليهم السلام) وإدراك قريش وأهل الكتاب علاماته ومشاهدتهم لدلائل نبوته واعلام عواقبه, فكيف لم يخف مع ذلك على نفسه؟ ولا أمر الله تعالى أباه بستر ولادته؟
وكيف لم يفرض على أبيه إخفاء امره كما زعمتم أنه فرض ذلك على ابي الامام، لما كان المنتظر عندكم من بين الائمة، والمشار إليه بالقيام بالسيف دون آبائه، فأوجب ذلك على ما أدعيتموه وأعللتم به في الفرق بينه وبين أبنائه في الظهور على خبره وكتم ولادته والستر عن الأنام شخصه.
وهل قولكم في الغيبة مع ما وصفناه من حال النبيصلى الله عليه وآله وسلم إلا فاسد متناقض؟
جواب الشيخ المفيد (رحمه الله) على ذلك:
يقال إن المصلحة لا تكون من جهة القياس، ولا تعرف أيضاً بالتوهم، ولا يتوصل اليها بالنظائر والامثال، وإنما تعلم من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر، العالم بالعواقب، الذي لا تخفى عليه السرائر، فليس ننكر أن يكون الله (سبحانه وتعالى) قد علم من حال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جميع ما شرحتم أنه لا يقدم عليه أحد ولا يؤثر ذلك منه، أما لخوف من الاقدام على ذلك، أو لشك فيما قد سمعوه من وصفه، أو لشبهة عرضت لهم الرأي فيه، فتدبير الله (سبحانه وتعالى) لرسوله في الظهور على خلاف تدبير الامام المنتظر لاختلاف الحالتين.
ويدل على ما بيناه ويوضح عما ذكرناه، أنه لم يتعرض أحد من عبدة الاوثان، ولا أهل الكتاب ولا أحد من ملوك العرب والفرس مع ما قد أتصل بهم من البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأحد من آباء الرسول بالإخافة، ولا لاستبراء واحدة من أمهاته لمعرفة الحمل به، ولا قصدوا الاضرار به في حال الولادة ولا في طول زمانه الى أن صدع بالرسالة، ولا خلاف ان الملوك من ولد العباس لم يزالوا على الاخافة لآباء الإمام (عجل الله فرجه الشريف) وخاصة ما جرى من أبي جعفر المنصور مع الصادق (عليه السلام) وما صنعه هارون بأبي الحسن موسى أبن جعفر (عليهما السلام) حتى هلك في حبسه ببغداد، وما قصد المتوكل بأبي الحسن الهادي (عليه السلام) جد الإمام حتى أشخصه من الحجاز فحبسه عنده بسر من رأى، وكذلك جرى أمر أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) بعد أبيه الى ان قبضه الله تعالى.
ثم كان من امر المعتمد العباسي بعد وفاة الامام العسكري (عليه السلام) ما لم يخف على أحد من حبسه لجواريه والمسائلة عن حالهن في الحمل، واستبراء امرهن عندما اتفقت كلمة الأمامية على ان القائم هو ابن الحسن العسكري (عليه السلام) فظن المعتمد انه يظفر به فيقتله، وبقي بعض جواري الامام العسكري (عليه السلام) في الحبس عدة اشهر، فدل ذلك على الفرق بين حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مولده وبين الامام (عليه السلام) على ما قدمناه بما ذكرناه وشرحناه.
وشيء آخر وهو إن الخوف كان مأموناً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بني هاشم وبني عبد المطلب وجميع أهل بيته واقاربه، لأن الشرف المتوقع له بالنبوة كان شرفهم، والمنزلة التي تحصل له بذلك فهي تختص بهم وعلمهم بهذه الحال يبعثهم على صيانته وحفظه وكلاءته ليبلغ الرتبة التي يرجونها له فينالون بها أعلى المنازل ويملكون بها جميع العالم.
هذه حال الاقرباء، أما البعداء منهم في النسب فيعجزون عن إيقاع الضرر به لموضع أهل بيته ومنعهم منه وعلمهم بحالهم وأنهم أمنع العرب جانباً واشدهم بأساً وأعزهم عشيرة فيصدهم ذلك عن التعرض له ويمنع من خطورة وبالهم، وهذا فصل بين حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يوجب ظهوره مع انتشار ذكره والبشارة به، وبين الإمام (عجل الله فرجه الشريف) فيما يجوز استتاره وكتم امر ولادته، وهذا بين لمن تدبره، ثم بعد ذلك ذكر الشيخ المفيد (رضي الله عنه)، أجوبة أخرى عن هذا التساؤل ولكن تركناها لأن ما نقلناه فيه الكفاية لمن اراد الهداية.
ثانياً: التمحيص والامتحان:
من السنن الإلهية التي جرت في عباده هو امتحانهم واختبارهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون, ويمحصهم ليميز الخبيث من الطيب، قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فإختبار وإبتلاء البشرية سنة إلهية جرت في جميع العصور على اختلاف في مادة الامتحان فتارة يختبرون بالتوحيد او النبوة أو الإمامة، واخرى بالمال أو الجاه أو النساء أو السلطان الى غير ذلك من الابتلاءات والاختبارات.
وغيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وحجبه عن الناس لمدة غير معلومة الامد من موارد الامتحان والاختبار التي لا ينجح فيها ولا يؤمن بها الا من حباه الله بلطفه، وخلص إيمانه، وأبت نفسه، وصدق بما جاء به النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأطهرين من آله صلوات الله عليهم اجمعين فسبب من اسباب الغيبة هو الامتحان والاختبار، وهناك عدة روايات تؤكد هذا المضمون، منها:
- روي عن الفضل بن شادان النيسابوري، عن أبن ابي نجران، عن محمد بن المنصور عن ابيه قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة نتحدث، فألتفت إلينا فقال: "في اي شيء انتم؟ إيهات إيهات[7] لا والله لا يكون ما تمدون اليه أعينكم حتى تغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدون اليه أعينكم حتى تميزوا، لا والله لا يكون ما تمدون اليه أعينكم حتى يشقى من شقي ويسعد من سعد"[8].
- روي عن أحمد بن ادريس، عن علي بن محمد بن قتيبة، عن الفضل بن شادان، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قال ابو الحسن (عليه السلام) "أما والله لا يكون الذي تمدون اليه اعينكم حتى تميزوا او تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين"[9].
ثالثاً: إستجماع تجارب الأمم السابقة:
قال الله تعالى: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، وهذا يدل على ان كل ما وقع في الامم السابقة هو واقع في الامة الإسلامية، وقد أخبرنا القران الكريم بوقوع الغيبة لجملة من الانبياء والاولياء، وبالتالي لابد من وقوع ذلك في هذه الامة المرحومة. فكما اقتضى تحقيق أهداف الرسالات السماوية غيبة بعض الانبياء، لعدم استعداد الامم السابقة لتحقيق هذه الاهداف، كذلك الحال مع الامة الاسلامية، فان تحقيق اهداف شريعتها، وإظهار الإسلام على الدين كله اقتضى غيبة خاتم أوصيائها حتى تتأهل وتستعد بشكل كامل لتحقيق هذه الأهداف وإقامة دولة العدل العالمية، فغيبة النبي أو الولي سنة من سنن الله تعالى في خلقه ولن تجد لسنة اله تبديلاً.
- عن المظفر العلوي، عن جعفر بن مسعود وحيدر بن محمد السمر قندي معاً عن العياشي، عن جبرئيل بن احمد، عن موسى بن جعفر البغدادي، عن الحسن بن محمد الصيرفي، عن حنان بن سدير، عن ابيه، عن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: ((ان للقائم (عليه السلام) منا غيبة يطول امدها ،فقلت له: ولم ذلك يابن رسول الله؟ قال: إنَّ الله عز وجل ابى الا يجري فيه سنن الأنبياء (عليهم السلام) في غيباتهم، ولكنه لابد له يا سدير من استيفاء مدد غاياتهم، قال الله (عز وجل): (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) أي سنناً على سنن من كان قبكم))[10].
- روي عن سعيد بن جبير قال سمعت زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: ((في القائم منا سنن من الانبياء (سنة من ابينا ادم، وسنة من نوح، وسنة من ابراهيم، وسنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من ايوب، وسنة من محمد (صلوات الله عليهم اجمعين). فأما من آدم ونوح فطول العمر، وأما من ابراهيم فخفاء الولادة واعتزال النساء، واما من موسى فالخوف والغيبة نواما من عيسى فاختلاف الناس فيه، وأما من أيوب فالفرج بعد البلوى، وأما من محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فالخروج بالسيف))[11].
رابعاً: حتى لا يكون في عنقه بيعة للظالم:
إنَّ الامام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) هو المدخر لإقامة الامت والعوج والمرتجى لإعادة الملة والشريعة واحياء السنن ومعالم الدين والمنتخب لإزالة الجور والظلم عن البلاد والعباد، فشاء الله تعالى أن لا تكون في عنقه بيعة لظالم، لأنه غير مكلف بالتقية خلافاً لمن تقدمه من ابائه (عليهم السلام اجمعين) وذلك من أجل حفظ روح رفض الظلم، فلا تقية مع الظالمين ولا هدنة من الجائرين ولا بيعة لهم في عنقه، بل هو قيام بالسيف وقصاص عادل وبطشة الله تعالى: ((يَوْم نَبْطِش الْبَطْشَة الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)).
ودلت على ذلك المعنى روايات منها:
- روي عن ابي عقدة، عن علي بن الحسن بن فضال، عن ابيه، عن ابي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: ((كأني بالشيعة فقد انم الثالث من ولدي، يطلبون المرعى فلا يجدونه، فقلت له: ولم ذلك يا بن رسول الله؟ قال: لأن امامهم يغيب عنهم، فقلت: ولم؟ قال: لئلا يكون في عنقه بيعة اذا قام بالسيف))[12].
- عن ابن ابي عمير، عن جميل بن صالح، عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: ((يبعث القائم وليس في عنقه لأحد بيعة ))[13].
خامساً: إنتفاع المؤمنين به وصلاح أمرهم:
وجه من وجوه الحكمة الإلهية في الامر بغيبة الامام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) وهو صلاح أمر شيعته والمؤمنين به، والانتفاع ببركة وجوده لسنوات طويلة واعوام متوالية من خلال دعائه لشيعته ومواليه أو من خلال تدخله المباشر وغير المباشر في تدبير شؤون وإصلاح أمرهم او من خلال طرق وأساليب لا نعلمها.
ومجرد غيبته لا يمنع من الانتفاع به بعد ما ثبت بالدليل القاطع أنَّ كثيراً من الامور غير حاضرة لنا والتي لا نراها بأعيننا تتوقف عليها الحياة برمتها، أنَّ جملة من الروايات الشريفة أكدت على ثبوت الانتفاع بالوجود المقدس لصاحب الامر وانه لولاه لساخت الارض بأهلها، إذ روي عن ابن زكريا، عن ابن حبيب، عن الفضل بن صقر، عن ابي معاوية، عن الأعمش، عن الصادق (عليه السلام) قال: ((لم تخلو الارض منذ خلق الله ادم من حجة الله فيها ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلوا الى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله، قال سليمان :فقلت للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس اذا سترها السحاب))[14].
سادساً: إتضاح عجز المدارس الأخرى:
شاء الله تعالى أن تأخذ جميع المدارس الفكرية والنظريات المادية دورها في رسم حاضر الانسانية ومستقبلها والى الآن لم تستطيع أن تحقق الاهداف البشرية وتوفير الرفاه الانساني المطلوب، وتحقيق المجتمع المتكامل الفاضل الذي تسوده الرفاهية والأمن والازدهار والسلام، فهي عاجزة الى يومنا هذا وستبقى عاجزة الى أن تشرق الارض بنور ربها، ويحين وقت ظهوره فيملؤها عدلاً وقسطاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
وإن إثبات عجز المدارس الاخرى عن تحقيق السعادة, والكمال المنشود للمجتمع الانساني له دور كبير للتفاعل الايجابي مع هذه المهمة الاصلاحية الكبرى، ولئلا يقول قائل لو لا أن تمكنا من الحكم والسلطان لنشرنا الامن والسلام وأصلحنا البلاد والعباد فأقتضت حكمة الله تعالى أن يأخذ كل ذي حظ حظه حتى تكون لله الحجة البالغة.
فقد جاء في غيبة الطوسي عن أبي جعفر (عليه السلام) انه قال: "دولتنا آخر الدول، ولن يبق أهل بيت لهم دولة الا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله (عز وجل) (والعاقبة للمتقين)"[15].
سابعاً: خروج ودائع الله تعالى:
يمكن أن يقال أن من اسباب غيبته (عليه السلام) وعدم قيامه بالسيف إلا في آخر الزمان هو السماح بوصول الحق للجميع وإخراج ودائع الله المؤمنين من أصلاب قوم كافرين، فكم من كافر يحمل في صلبه مؤمناً تقياً ورعاً "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي"[16].
فقد سُئل الامام الصادق (عليه السلام) ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقاتل مخالفيه في الاول؟ قال" لآية في كتاب اللهعز وجل": (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[17]، قال: فقلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال "ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين، فكذلك القائم (عليه السلام) لن يظهر حتى تخرج ودائع الله (عز وجل) فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله (عز وجل) فقتلهم"[18].
ثامناً: عدم توفر العدد المطلوب من الأنصار:
إن الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يمثل الحلقة الاخيرة في سلسلة الانبياء والاولياء وتقع على عاتقه مسؤولية قيادة المعركة المصيرية الحاسمة بين الخير والشر, ومن أجل الظفر بها يحتاج الى عددٍ كافٍ من الانصار وعلى مستويات عالية من الاخلاص للشريعة المحمدية وأهدافها ويمتلكون التجربة الجهادية اللازمة لخوض حركة الصراع الاخير والحاسم مع قوى الشرك والظلال والكفر والنفاق.
ومن أجل تحقيق هذا الغرض إقتضت الحكمة الالهية غيبة القائد المنتظر ولسنوات طويلة, حتى تفتح أبواب التكامل وآفاق التمحيص في صفوف شيعته والمؤمنين به وأجيالهم المتلاحقة حتى يعد الجيل القادر-كماً وكيفاً- على الاستجابة لمقتضيات الثورة المهدوية الكبرى, وقد جاءت عدة روايات بهذا المضمون منها:
- وقد أورد الشيخ المفيد (رضي الله عنه) في كتابه الغيبة رواية بهذا المضمون حيث روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: "أما لو كملت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون..."[19].
- روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: "لو أجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً لوجب عليه الخروج بالسيف"[20].
تاسعاً: تحصيل الثواب:
هناك جملة من الروايات الشريفة أثبتت الثواب الجزيل, والأجر العظيم للمنتظرين لوعد الله تعالى والمصدقين بتحققه, وشاءت إرادة الله تعالى ان تكون غيبة الإمام (عجل الله فرجه الشريف) -من هذه الجهة- باباً من ابواب رحمته الواسعة, وسبباً لشمول خلقه بألطافه وعطاءه وفضله حتى عد المنتظر لأمر أهل البيت (عليهم السلام) كالمتشحط في سبيل الله تعالى ومن جملة هذه الروايات:
- عن محمد بن مسعود, عن جعفر بن معروف, عن محمد بن الحسين, عن جعفر بن البشير, عن موسى بن بكر الواسطي, عن أبي الحسن عن آبائه (عليهم السلام) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "أفضل أعمال أمتي إنتظار الفرج"[21].
- عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله"[22].
عاشراً: الغيبة نوع من العقاب:
إن وجود الخليفة في الارض وظهوره بين الخلق لا يشك مطلقاً في كونه نعمة إلهية كبرى، فإذا علم الله تبارك وتعالى أن الخلق لا يستحقون مثل هذه النعمة وتجاهلوها و استخفوا بها بل ابدلوها بغيرها حرمهم الله تعالى منها، حتى يشعروا بالفراغ الذي تركته غيبة ولي الله الاعظم وتحس البشرية بالحاجة الى هذا الحبل الذي يربط الناس بخالقهم وعليه فغيبة الإمام (عليه السلام) قد تكون انتقاما وعقوبة للناس على ما اقترفوا من ذنوب ومعاصي وعدم تقديرهم لهذه النعمة حق قدرها, فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) عنه قال "إذا غضب الله تبارك وتعالى على خلقه نحّانا عن جوارهم"[23].
أحد عشر: الغيبة سر من أسرار الله تعالى:
بعد إن ذكرنا جملة من الروايات الشريفة التي بينت أسباب الغيبة وفلسفتها والاهداف المتوخاة منها, لا بد أيضاً من الاشارة الى عن هناك روايات أخرى عللت غيبة الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) بأنها من أسرار الله تعالى التي لم يطلع عليها أحد من الخلق وعليه لو تنزلنا جدلاً وقلنا عدم علمنا بالفائدة من الغيبة فهذا لا يعني عدم الفائدة من الغيبة لأنه وكما يقال في المعقول "عدم العلم لا يعني العلم بالعدم" بل تبقى هنالك فائدة غاية الامر هي مجهولة لنا وسر من أسرار الله تعالى وغيب من غيب الله تعالى الذي لم يطلع عليه أحد الا من أرتضى من رسول, ومن الروايات التي تؤكد هذا المعنى:
- عن عبد الواحد بن محمد، عن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن حمدان بن سليمان النيسابوري، عن أحمد بن عبد الله بن جعفر المدائني، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: "إن لصاحب الأمر هذا غيبة لا بد منها يرتاب فيها كل مبطل، فقلت: ولم جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم" قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال" وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف الا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت إفتراقهما "يا أبا الفضل، إن هذا الامر من أمر الله تعالى، وسِرٌّ من سِرِّ الله وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنه (عز وجل) حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة وان كان وجهها غير منكشف لنا"[24].
- وأثر عن الإمام المهدي (عليه السلام) أنه قال لبعض شيعته "أغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا ما قد كفيتم، واكثروا من الدعاء بتعجيل الفرج، فإن في ذلك فرجكم والسلام على من أتبع الهدى"
بقي في المقام شيء لابد من الاشارة اليه وهو: إنه يمكن أن يرد إشكال مضمونه كالتالي: إذا كانت الغاية والعلة من الغيبة سر من اسرار الله تعالى ولم يطلع الله تعالى عليه أحداً, فكيف صرحت كثير من الروايات -كما تقدم- بذكر العلة منها؟ وقد أجيب عن هذا الأشكال: بأن تلك الروايات بصدد بيان العلة الناقصة للغيبة, وأما التي تبين أن العلة سر من أسرار الله فهذه تشير الى العلة التامة.
المطلب الثالث: أدوار الغيبة عقلاً
إنَّ الامام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) هو المختار من قبل الله تعالى للقيام بالمهمة الاصلاحية الكبرى وعملية التغيير الشامل لكل ما هو ظلم وفسوق ونفاق واراء منحرفة ونظريات باطلة، ليحل محلها السلم والسلام والتقدم والازدهار وقيام دولة العدل العالمية ونشر قيم الحق ومبادئ الاسلام في جميع العوالم، فدولته المباركة هي ثمرة جهود الانبياء والمرسلين وهي الغاية التي ضحى من اجلها الاولياء والصالحون بكل ما هو غال ونفيس، وعليه فالعقل يحكم من اجل تحقيق هذه المهمة الصلاحية الكبرى والثمرة المتوخاة منها والامل المنشود، لابد ان تتحقق قبل ذلك اسباب وشرائط ومقدمات حتى تكون النتائج على افضل مستوى ومن أهم هذه الاسباب والشرائط هو أن يكون القائد لهذه المهمة مطلعا على الديانات باسرها وواقفاً على أوجهها المختلفة ومستجمعاً لتجاربها السابقة، وهذا لا يكون إلا بالعمر المديد والعيش الطويل دون ان يتعرض لخطر أو ما يعيق دوره في تنفيذ ما هو مطلوب منه وهذا لا يكون إلا بغيبته عن الانظار.
أضف انه مثل هذه المهمة الحاسمة التي تغير مجرى التاريخ وتخلص الانسان من المحن والخطوب التي غرق فيها، تحتاج الى المناخ المناسب والجو الملائم لإنجاح عملية التغيير الاجتماعي فكما ان البشرية احتاجت الى مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى تهيأت واستعدت لبعثة النبي محمد (صل الله عليه وآله وسلم) وقبل ذلك لم تتوفر الشروط لبعثه فكذلك الامام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) شاء الله تعالى ان يغيبه حتى تكتمل شروط التغيير وتهيأ المناخ المناسب والبيئة الصالحة لذلك.
ومن أجل ذلك لابد أن تمر الامة بجميع الادوار المظلمة وترى شتى الخطوب والمآسي والمحن لتسلقها وتكون كالمبرد الذي يجلو الذهب ويجعل السكين نافذاً.
وواضح أنَّ مرور البشرية بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة وفقدانها لقائدها ومصلحها وشعورها بالظلم والجور مداً كبيرا من الزمن كل ذلك يولد عندها الشعور بالمسؤولية والاقدام على التضحية من أجل تغيير الواقع المرير ويضطرها الى التفكير بأمرها وبلورة افكارها والتطلع بشوق ولهفة الى مصلحها الاعظم ومنقذها الاوحد وتكون الامة على أتم الاستعداد لتلبية نداء المنادي إذا نادى بالتغير والاصلاح.
[1] -الجوهري اسماعيل بن حماد، الصحاح في اللغة: 2/ 29.
[2] -الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة: 141.
-[3] كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، باب علة الغيبة.
-[4] المصدر نفسه.
[5] - التساؤل وجوابه منقول مضموناً عن الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة: 331.
[6] - التساؤل وجوابه منقول مضموناً عن الشيخ المفيد في كتاب مناظرات في العقائد والاحكام، تأليف: الشيخ عبد الله الحسن: ج1، المناظرة 62.
-[7] إيهات: لغة في هيهات، ابدال الهاء همزة.
-[8] كتاب الغيبة، الشيخ الطوسي: 336.
[9] - المصدر نفسه.
-[10] كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، باب علة الغيبة.
[11] - كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، باب علة الغيبة.
-[12] كمال الدين وتمام النعمة, الشيخ الصدوق, باب علة الغيبة.
-[13] المصدر نفسه.
-[14] بحار الانوار، العلامة المجلسي، ج52، باب علة الغيبة، ص93.
[15] - الغيبة، للشيخ الطوسي: 472.
-[16] سورة آل عمران: الآية 27.
-[17] سورة الفتح: الآية 25.
[18] - بحار الانوار، العلامة المجلسي: 52/98.
[19] - رسائل في الغيبة، الشيخ المفيد، الرسالة الثالثة.
[20] - المصدر نفسه.
[21] - بحار الانوار، العلامة المجلسي، ج52، باب فضل إنتظار الفرج، ص123.
[22] - المصدر نفسه.
[23] - كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، باب علة الغيبة.
[24] - البرهان في علامات آخر الزمان، نقلاً عن كتاب حياة الامام المهدي، باقر شريف القريشي.